أخبار اليوم. في الذكرى الخامسة والستين لعيد الاستقلال، يقف القلب متردِّداً بين فرحٍ عميقٍ بالانتماء ووجعٍ أعمق من وعيٍ يقرأ الواقع كما هو، فرح لأن الراية خفقت يومًا على أرضٍ تحررت من قيدٍ خارجي، ووجع لأن التحلل النفسي والاجتماعي الذي ورثناه لم ينتهِ مع توقيع الوثائق، بل امتدَّ في بناة الدولة وفي ثقافة الناس إلى أن صار الفقر في عقولنا أعظم من الفقر في بطوننا؛ إننا نملك الأرض والبحر والسماء وثرواتٍ لا تُحصى، لكننا نفتقد الرؤية التي تصنع دولةً، ونفتقد المواطنة التي تُولِّد مسؤولية، ونفتقد النظام الذي يحول الإمكانات إلى واقع ملموس، ونفتقد ذائقةً جماليةً للحياة تُعلي من قيم الكرامة والعمل والاحترام المتبادل. الأحزان الحقيقية هنا ليست في غياب الإمكانيات بقدر ما هي في استمرار عقلية الاعتماد على الآخر، وفي تبنّي ثقافة الشعارات بدل صنع المؤسّسات، فالتعليم مكسور بحيث لا يكوّن مواطناً واعياً ناقداً ومبدعاً، والصحة تداوي الأجساد لكنها لا تداوي عقم التخطيط، والاقتصاد يتحرك بدوراتٍ قصيرة وبأجندات انتفاعية تحرم البلاد من المشاريع الطموحة التي تعيد توزيع الثروة وترسخ الكرامة. والحقائق المؤلمة التي لا بد من قولها بصراحةٍ إنما تكمن في أن الفساد يتنفّس كحقيقة طبيعية، وأن الوظيفة العمومية تغدو مسرحاً للمحسوبيات، وأن الشباب ينزف بفقدان الأمل بين هجرةٍ تغادر الوطن جسدياً وهجرةٍ داخلية تفقد فيها الروح هدفها، وأن ذائقة المجتمع ووعيَه المدني ما زالا رهينين بمنطقٍ قبليٍّ أو جهويٍّ أو لحظيٍّ يمنع الاتحاد حول مشروعٍ وطنيٍّ واحد. وكم هي موجعة تلك اللحظة حين أكون واعياً بكل هذا، أرى الأخطاء بعينٍ نافذة، وأصغي إلى وجع الناس وأحمله في صدري، فتصير الواجبات الثقيلة على من يعلم، والخيبة أقوى لأن اليد التي تريد الإصلاح صغيرة أمام منظومةٍ مجهولة تعودت على الجمود واللامبالاة؛ ألمٌ لا يحنُو عليه إلا الدعاء الصادق: «ربِّ إني لما أنزلتَ إليَّ من خيرٍ فقير»، دعاءٌ يعبر عن فقرٍ روحيٍ إنساني قبل أن يكون مادياً، فقر إلى أن يُستجاب الحق ويُقام العدل ويُستبدل التخلف بإرادةٍ صانعةٍ للتغيير. ومع ذلك، لا يمكن أن يكون الاحتفال بالكفاح ضد الاستبداد تاريخياً بغير معنى؛ فالاستقلال ليس محطةً نهائية بل مشروعٌ مستمر، والفرح الحقيقي ينبع من قرارٍ فرديٍ وجمعي بأن لا نكون شهود زور على تهاوٍ يمكن لنا أن نصلحه، وأن لا نستسلم لحالةٍ تجعل الوطن مجرد شعارٍ على الأعلام بدل أن يكون عالماً للكرامة والعمل. فليكن الاستقلال اليوم دعوةً إلى استكمال رحلة التحرر، تبدأ بتحرير العقل من الجهل والأعذار، وتنتهي ببناء مؤسّساتٍ قويةٍ ثابتةٍ على قواعد العدالة والشفافية والتخطيط بعيد المدى، ولتكن التربية الوطنية تزرع في الأطفال حب العمل والواجب لا تبعية الشعار، ولتكن السياسات الاقتصادية تُعيد الثروة إلى الشعب عبر مشاريع تنموية حقيقية، ولتكن المدن مخططَةً بروح حضارية تُعطي المواطن نصيبه من الجمال والنظام والحقوق. وفي قلب هذا النداء تقف مسؤولية المثقف والفاعل والإنساني — أنت وأنا ومن يهمه الوطن — بأن نعمل حيث نستطيع، وأن نحول حرقة القلب إلى منارةٍ صغيرة تنير درب الآخرين، فلا ننتظر أن يغيرنا غيرنا وإن فعلنا ما في وسعنا فإننا نزرع بذرةً قد تنبت في أرض نامية، وهذا العمل الفردي المتواصل هو ما يصنع الأمة في نهاية المطاف. إن حب الوطن لا يقاس بالهتاف في مناسبة، بل بالاستمرار في السؤال والعمل والنقد البنّاء والتضحية اليومية من أجل أن نصل إلى واقعٍ يليق بتاريخنا وأحلامنا، فاحتفل بفرحك ويجعل حاجتك إلى الإصلاح وقودك، واحتفظ بحزنك كمرآةٍ تنذر وتوقظ، وعند كل ذلك قل بصدقٍ: «ربِّ إني لما أنزلتَ إليَّ من خيرٍ فقير»، فقير إلى أن يُستجاب لهذا الوطن، فقير إلى أن أجد فيه أهل المسؤولية الذين يقودون التحوّل، فقير إلى أن تثمر جهودي الصغيرة في صياغة مستقبلٍ أرحبَ، فإن لم يكن بيدي أن أبني الوطن وحدي فأنا مسؤولٌ عن أن أبدأ حيث أنا، وأن أدعو وأن أعمل وأن أعلّم، فالعظمة لا تُنجزها يدٌ واحدةٌ ولكنها تبدأ بيدٍ امتدت، وبقلبٍ لم يملّ، وبوعيٍ لم يستكن، وبصلاةٍ صادقةٍ على نيةِ أن يكون الوطن أفضل
