أخبار اليوم. لم يكن سقوط حكومة سيباستيان لوكورنو، بعد أقل من شهر على تكليفه، مجرد حادثة عابرة في رزنامة الاضطراب السياسي الفرنسي المعتاد، لقد كان تتويجا لمسار ممتد منذ حل البرلمان في صيف 2024، ومسحا لآخر أوهام القدرة على ترميم وسط نيوليبرالي تآكلت شرعيته الاجتماعية، وتفتتت أدواته المؤسسية.
وبينما طلب الرئيس إيمانويل ماكرون من رئيس وزرائه المستقيل البقاء 48 ساعة إضافية في صيغة تصريف الأعمال، كانت الأسواق تهبط، وكلفة الاقتراض ترتفع، والطبقة السياسية تتبادل الاتهامات بالعجز عن التسوية، فيما يتقدم التجمع الوطني، حزب أقصى اليمين، كخيار بديل في عيون شريحة متزايدة من الناخبين.
اللافت هذه المرة ليس سرعة الانهيار فحسب – أقل من شهر في المنصب، وساعات معدودة بعد إعلان التشكيلة الحكومية – بل طبيعة الفشل: فسقوط لوكورنو كان شكليا بسبب محاولته تمرير ميزانية (غير شعبية)، لكنّ موضوعا فإن مأزق الحكم نفسه لم يعد قابلا للمداواة بإعادة تدوير الوجوه والأساليب.
حين أعاد لوكورنو شخصيات من الحلقة المقربة من ماكرون – مثل طرح عودة برونو لومير وزيرا للمالية – اعتُبر ذلك استفزازا واستمرارية مرفوضة داخل برلمان معلق، فانهار الجسر الذي كان يصل الإليزيه بجناح من الجمهوريين، وتصلبت مواقف الاشتراكيين المطالبين بضرائب على الثروة، والتراجع عن إصلاحات التقاعد.
في حصاد يوم واحد، خرج لوكورنو ليقول: “لا يمكن أن تكون رئيس حكومة حين لا تتوافر الشروط”، ملقيا باللوم على أحزاب “تتصرف كأن لكل منها أغلبية منفردة”. وهذه كلها أعراض لمرض بنيوي لا لشخص أو لكتلة برلمانية بعينها.
بهذا المعنى، باتت فرنسا في لحظة تذكر بأواخر الجمهورية الرابعة قبل الجنرال ديغول: انقسام برلماني مزمن، ودوامة حكومات قصيرة العمر، وتآكل أدوات (الاستثناء الدستوري) التي اعتادت السلطة التنفيذية الركون إليها – منها المادة 49.3 – إما لتسببها بارتداد سياسي قاسٍ، وإما لتعذر استخدامها في سياق مشحون بالرفض الشعبي والحزبي
وإذا كان ديغول قد صاغ دستور 1958 لتحصين مركزية الرئاسة من فوضى الائتلافات، فإن توازن القوى القائم منذ 2024 يشي بأن هذا النظام نفسه يئن تحت ضغط تعارض بين هندسة مؤسسية مصممة لحسم القرار، وبين واقع اجتماعي- سياسي لم يعد يمنح أحدا شيكا على بياض.
ما يجعل التأزم السياسي أكثر خطورة هو تزامنه مع عطب مالي حاد: عجز يدور حول 5.4٪ من الناتج في 2025 وفق التقديرات، وخطط لم تكن لتقود – حتى في أفضل السيناريوهات – إلا إلى خفض تدريجي نحو 4.7٪ في 2026 على أبعد تقدير.
ومع اهتزاز الحكومة، ارتفع عائد السندات لعشر سنوات، وتوسع الفارق مع نظيرتها الألمانية، وتراجعت أسهم المصارف على نحو يعكس خوف المستثمرين من سيادة مالية تتآكل، لا سيما إذا تعطل مسار الميزانية، وساد منطق الترحيل إلى العام المقبل.
هذه، بالطبع، أكثر من “هستيريا” أسواق، بقدر ما هي ترجمة لمعادلة أنه كلما طال الفراغ وازدادت كلفة التمويل، صارت خيارات التقشف أقسى، ومقاومتها الشعبية أوسع، وتاليا تعقد تمريرها برلمانيا. هكذا ندخل حلقة مفرغة تجمع الاقتصاد بالسياسة في قبضة واحدة.
تحذر تقديرات مؤسسات بحثية وصحفية من أن تكاليف خدمة الدين الفرنسي العام مرشحة للارتفاع الصاروخي خلال السنوات المقبلة، ما يجعل بند الفوائد “مفترسا صامتا” لبقية الإنفاق، ويقلص مساحة المناورة لأي حكومة مقبلة، سواء كانت تكنوقراطية وسطية أو قومية – شعبوية تعِد باسترجاع “السيادة الاقتصادية”.
على هذا الأساس، فالخلاف في باريس حول من يدفع الفاتورة (الأثرياء من خلال ضرائب ثروة؟ أم عموم السكان عبر تقليص الرعاية؟) ليس تفصيلا أيديولوجيا؛ إنه محور الحرب الطبقية في نسختها الأحدث.
خيارات ماكرون في الزاوية الحرجة
الرئيس ماكرون أمامه، تاليا، وفق المراقبين، ثلاثة مخارج أحلاها مر:
1- إعادة التكليف داخل الطيف الوسطي – اليساري:
يمكن تسمية شخصية من اليسار المعتدل أو تكنوقراط من خارج الألوان الحزبية الفاقعة لتجريب صيغة تسوية على ميزانية انتقالية، مع تعهُد بعدم استخدام المادة 49.3.
لكن هذا الخيار سيصطدم سريعا بشروط الاشتراكيين (ضريبة ثروة، تجميد إصلاحات التقاعد)، وبحساسية اليمين التقليدي من أي رفع ضريبي، وبضيق الزمن الدستوري لتمرير الميزانية قبل نهاية العام.
وهو، فوق ذلك، يضع ما تبقى من “إرث إصلاحي” لماكرون تحت مقصلة المقايضات، بلا أية ضمانات للاستقرار.
2- حل البرلمان:
الدعوة إلى انتخابات مبكرة خلال 40 يوما تعيد القرار للشعب، وقد تمنح التجمع الوطني زخما إضافيا، لكنها قد تنتهي أيضا إلى برلمان معلق آخر، بحسب تعقيدات نظام الدورتين والتحالفات المحلية.
ميزتها الوحيدة أنها تفك الاشتباك القائم، وتمنح شرعية محدثة للخيارات الصعبة المقبلة؛ لكن عيبها أنها قد تكرس الانقسام وتؤجل الميزانية، فتُرحَل تلقائيا بتدابير مؤقتة بلا إصلاح ولا إيرادات إضافية. والأسواق – كما الحال دائما – تخشى الفراغ.
3- الاستقالة:
وهو احتمال يلوح به خصوم الرئيس من أقصى اليسار ويطالب به بعض يمين الوسط الساخط، لكنه يظل سياسيا ودستوريا ضعيف الاحتمال، وقد يطلق ديناميات لا يمكن التنبؤ بنتائجها على النظام برمته.