أخبار اليوم. إن التحولات الثقافية والحضارية الكبيرة التي تسبِق الانتقال من نظام اجتماعي قديم الى نظام جديد تبدو للوهلة الأولى وكأنها ناجمة عن تغيرات سياسية، لكن دراسة أكثر دقة للأحداث تظهر أن وراء الأسباب الظاهرة يوجد سبب حقيقي هو تغيير عميق في الأفكار والعقليات. إن التغيرات التاريخية المؤثرة والمهمة فعلا في حياة الشعوب ليست تلك تفاجئنا بعظمتها وعنفها، بل تلك التي تحدث في الأفكار والمفاهيم والمعتقدات والعقول. وإذا كانت الأحداث العظيمة تظهر نادرا، فذلك لأنه لا يوجد شيء أكثر استقرارا لدى الشعوب من موروثها الفكري والثقافي.
وفي سياق الحركة التاريخية، يمكن القول بأن الغقل الموريتاني أو نمط التفكير الموريتاني يمر منذ 30/40 سنة بعملية تحول عميقة بفعل عاملين إثنين، هما:
– خلخلة المعتقدات الدينية والسياسية والاجتماعية، وفقدان كل البَوصلات القديمة،
– ظهور “العَولمة” والاكتشافات الحديثة وهَيمنة “المادة” وتأثيراتها على الفكر والسلوك.
بالفعل، تمر موريتانيا بمرحلة تحول من “نظام قديم” يكافح من أجل البقاء إلى نظام جديد يشق طريقه بصعوبة. في الماضي، كانت صراعات الأمراء وشيوخ القبائل وأصحاب الرتب والمال والجاه ومنافساتهم هي العَوامل الرئيسية في صنع الأحداث، ولم يكن لرأي “العامّة” أو الدهماء قيمة تُذكر. ثم ظهرت الدولة لاحِقا ومعها الأحزاب السياسية والقوانين والديموقراطية والانتخابات والمؤسسات لتكون الإطار النّاظِم للشأن العام، ولكن الأحداث ومقتضيات العصر تجاوزت الدولة العتيقة أيضا. ولم تعُد مواقف شيوخ القبائل والوجهاء و”النخب العالمة” ذات أهمية كبيرة رغم ما تقوم به من جهود للتغطية على ضعفها. ولم تعد الأحزاب السياسية قادرة على صنع الأحداث، وأصبح صوت “العامّة” مُهِمّا ومسموعا، مما يدُل على خلخلة واهتزاز داخل النظام القديم.
في هذه المرحلة الانتقالية المعقدة ليس من السهل الحديث عن ما يمكن أن يحدث غدا، ولا عن الأفكار التي سيستقر عليها المجتمع مستقبلا. ولذلك، يتعيّن على المهتمين بالشأن العام أن يأخذوا في الاعتبار صعوبة المرحلة، كما يتعيّن عليهم الاقتناع بأن نجاح التحول يتطلب مقاربات سياسية أكثر عمقا ونضجا من بعض ما نشاهده اليوم. وبهذا الخصوص، أود أن أتناول بسرعة وبإيجاز نقطتين، هما الأبرز في الساحة حالا:
– الجدل البيزنطي حول الهويات
– الحشود الصاخبة والغوغاء
الجدل حول الهويات
لا أحد ينكر أهمية ما يجري من نقاش وجدل وحوار حول قضايا الهوية والوحدة والتنوع العرقي والفئوي. ولا حرج في مناقشة أوضاع القوميات والفئات والمجموعات وعلاقاتها فيما بينها وعلاقاتها فيما بينها وبين الدولة. هذا كله مهم ومطلوب، إلاّ أنه قد يكون في غير محله الآن، ذلك أن المشكلة الأساسية المطروحة اليوم لا تتعلق بالمجموعات والفئات والأعراق أكثر مما تتعلق “بما يُسمى في أدبيات الثورة الفرنسية “الدولة الثالثة”(le tiers état) أو “الطبقة الثالثة”. وقد أطلق هذا الاسم – الدولة الثالثة – (tiers état) في فرنسا الثورة (1789) على “العوام” أو الدهماء من المجموعات والفئات التي لا تنتمي إلى الطبقة المحظوظة من رجال الكنيسة والاقطاع، وتشكل الأغلبية الساحقة من الشعب. وقد سُئل عنهم “إمانويل سييس (Emmanuel J. Sieyès)، فقال كلمته الشهيرة:
“من هم العوام”؟
– هم الجميع
ما تأثيرهم في النظام السياسي؟
– لا شيء.
ماذا يريدون؟
– أن يُصبحوا شيئا”•
مقتضى قولي، إن مشكلتنا اليوم هي كيف نتعامل بحكمة وعقل مع نهضة “الدولة الثالثة” في أطراف المدن والبوادي والأحياء العشوائية ومناطق الترحيل، وفي كل منطقة يشعر أهلها بالغبن والظلم ومصاعب الحياة، بدءا بالمزارع والراعي والبائع المتجول والشاب العاطل وانتهاء بالموظف البسيط كالمعلم والممرض وأصحاب المهن الصغيرة. هؤلاء لا ينتمون لشريحة ولا فئة ولا قبيلة ولا عرق ولا لون واحد. ولا يجمعهم حزب سياسي ولا تنظيم ولا مرشح ولا إيديولوجيا.. يجمعهم التهميش والإقصاء. ويريدون أن “يصبحوا شيئا” على حد قول “سييس”• وفي هذا السياق، أخشى ما أخشاه أن يُبعدنا موضوع الهوية والأصول التاريخية والأنثروبولوجيا – رغم أهميته – عن موضوع الحكم الرشيد الذي يشكل أولوية الأولويات.
الموضوع القادم حول الحشود الصاخبة والغَوغاء