تأملات: من صور الذكريات إلى صحائف الأعمال!!

author
0 minutes, 0 seconds Read

أخبار اليوم.    منذ انضمامي إلى هذا “الفضاء الأزرق” عام 2009م، لم أكن أتصور أن هذه الصفحات ستغدو يومًا امتدادًا حقيقيًا لحياتي، ومرآة لرسالتي في هذه الدنيا.
فقد تراكمت فيها الذكريات، وتوثقت فيها الأعمال، حتى باتت جزءًا لا يتجزأ من يومياتي.
لم تكن منشوراتي مجرد صور عابرة أو تعليقات آنية، بل امتدت لتوثّق رحلة فكرية وإنسانية امتدت لأكثر من ستة عشر عامًا، تنقلت فيها بين خواطر ومقالات وبحوث دينية وعلمية واجتماعية. ومع مرور الزمن، أدركت أن هذه الصفحات الرقمية لم تعد مجرد مساحة افتراضية، بل جزء حي من كتاب حياتنا.
حين أفتح صفحتي على “فيسبوك” أو “تويتر”، تعيدني التطبيقات إلى لحظات مضت: صورة، تعليق، أو مقال كتبته ذات يوم. تتدفق الذكريات وتغمرني المشاعر، وكأني أستعرض شريطًا من عمري… لكنها لم تكن يومًا حياة رقمية باردة، بل حياة حقيقية تُوثّق لحظة بلحظة، وكأنها تُنسخ في كتابٍ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة.
الكلمة مسؤولية… والصورة شاهد
كوني مسلمًا، أستشعر ثقل المسؤولية أمام كل كلمة أكتبها أو أنطق بها. فديننا لا يفرق بين القول والعمل في ميزان الحساب، بل يجعل من الكلمة الصادقة عبادة، ومن الجارحة خطيئة. وفي عصرٍ تتسابق فيه المنصات إلى التوثيق اللحظي، يتجلى إعجاز الإسلام في دقة توجيهاته، وكأن القرآن يُتلى الآن لا قبل أربعة عشر قرنًا.
لقد سعى الإنسان منذ فجر التاريخ إلى توثيق وجوده: من النقوش على جدران الكهوف، إلى التماثيل، فاختراع الكاميرا. وكان للعالم العربي المسلم الحسن بن الهيثم الريادة حين وصف في القرن الحادي عشر “القمرة المظلمة” (Camera Obscura)، التي اشتُقّ منها لاحقًا مصطلح “كاميرا”.
ومنذ ذلك الحين تسارع التطور: من بويل ونيبس، إلى الكاميرا الرقمية، فالتصوير الفوري، ثم الهواتف الذكية التي باتت توثق كل شيء: صورة، صوتًا، موقعًا، بل وحتى نبض القلب!
هذا الانفجار التكنولوجي الذي حوّل كل إنسان إلى “موثق”، يطرح سؤالًا وجوديًا عميقًا:
هل نحسن استخدام هذه النعم؟ وهل ما نراه مجرد أرشيف رقمي خاص، قد يتحول يومًا إلى جزء من “كتاب الأعمال” الذي نلقى به الله؟!
لقد ثبت علميًا أن كل موجة صوتية ننطق بها تترك أثرًا في الفضاء ويمكن نظريًا التقاطها، كما أن أجسامنا تصدر موجات حرارية تُرصد في الظلام عبر تقنيات “الإنفراريد”… أليست هذه الحقائق تجسيدًا لقوله تعالى:
﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18]؟
إن العلم الحديث يعود ليؤكد ما جاء في القرآن الكريم، ويجعل من كل فعل وقول “ملفًا مفتوحًا”.
فهل فكرنا يومًا أن حساباتنا على الإنترنت قد تُعرض علينا في الآخرة؟
هل يمكن لمنشور شاركناه بلامبالاة، أو تعليق كتبناه في لحظة غضب، أن يكون شاهدًا علينا لا لنا؟
إننا نخطئ حين نظن أن ما ننشره سيُنسى مع الزمن، فالحقيقة أن هذا الفضاء لا ينسى.
التكنولوجيا: نعمة أم محكمة مفتوحة؟
نعم، نحن نعيش في عصر الصور واللحظات السريعة، ولكننا نعيش أيضًا تحت أعين لا تنام: الكاميرات، الخوارزميات، والسيرفرات التي تحفظ كل شيء.
فهل استخدمنا هذه النعمة لتوثيق الخير، ونشر المعرفة، وبناء الذات؟
أم لتكريس اللهو والغفلة، والإغراق في الملذات؟
قال ابن خلدون: “إذا كثر الترف والتفنن، تأذَّن الله بخرابها”، ونحن اليوم في قمة هذا الترف الرقمي.
مراجعة الحساب… قبل الحساب
لقد دعانا الإسلام إلى محاسبة النفس قبل أن نُحاسَب، كما في الحديث الشريف:
“الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت” (رواه المنذري).
فما بالك إذا كانت التقنية نفسها باتت “شاهدة” علينا، لا مجرد وسيلة ترفيه؟
حتى بعض المفكرين الغربيين أدركوا هذه الحقيقة:
فـ ديل كارنيغي كان يحتفظ بملف سماه: “حماقات ارتكبتها”، ليتعلم منها.
ونابليون بونابرت قال: “لم يكن أحد سببًا في هزيمتي غير نفسي”.
أما نحن، فقد أحاطتنا الأجهزة من كل جانب… فهل حولناها إلى منابر وعي، أم مرايا لهو وغفلة؟
كل لحظة تُوثق، وكل كلمة تُسجّل، وكل صفحة نُنشئها قد تكون صدقة جارية… أو صحيفة إدانة!
فلنحسن استخدام هذا “الكتاب الرقمي”، قبل أن يُفتح “كتاب الأعمال”، مصداقًا لقوله تعالى:
﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ…﴾ [الكهف: 49]
﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ…﴾ [الإسراء: 13]
التكنولوجيا: بين الفطرة والفتنة
إذا اختصرنا الإنسان في معادلة: عقل + قلب في مقابل بطن + فرج، [العقل+ القلب= البطن+الفرج] فإن اختلال هذا التوازن يُفضي إلى الهلاك الأخلاقي.
وقد سقط كثيرون في وحل الشهوات بدلًا من السمو نحو الفضائل.
لكن الإسلام، دين الفطرة، جاء ليعيد هذا التوازن، ويهذب النفس قبل أن يبني الحضارة.
فهل نعقل هذا في زمن باتت فيه التقنية تقيم علينا الحجة بالصوت والصورة والتوقيت؟
من هنا، لا بد أن نراجع أنفسنا، ونحوّل صفحاتنا الإلكترونية إلى صدقة جارية لا صحيفة إدانة.
أن نستخدم التقنية لما يُرضي الله، لا لما يُغضبه.
أن نحاسب أنفسنا قبل أن نُحاسَب.
قال تعالى:
﴿يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا﴾ [الكهف: 49]
فلنحسن الاستخدام… فالنية محفوظة، والكلمة محسوبة، والتاريخ يُكتب… على مرأى من الناس، ومن فوق سبع سماوات.
الهوامش:
1. محمد الغزالي: ركائز الإيمان بين العقل والنقل، دار القلم، دمشق، ط4، 1999م.
2. محمد الغزالي: جدّد حياتك، دار القلم، دمشق، ط15، 2003م.
3. وحيد الدين خان: الإسلام يتحدى، ترجمة ظفر الإسلام خان، المختار الإسلامي، القاهرة، 1964م.
4. عبد الكريم بكار: تجديد الوعي، دار القلم، دمشق، ط1، 2000م.
5. المرابط ولد محمد لخديم: دين الفطرة: استنطاق الرياضيات والفيزياء بلغة إنسانية، دار المعراج، بيروت/دمشق، 2014م.

من صفحة المرابط ولد محمد لخديم

Similar Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *