العدالة الإدارية والوحدة الوطنية /أحمدو سيدي محمد الگصري

author
0 minutes, 0 seconds Read

                  مدخل استراتيجي لبناء دول فعّالة

ظهر تجارب الدول التي نجحت في تحقيق الاستقرار السياسي والتنمية المستدامة أن الوحدة الوطنية لا تُبنى بالشعارات، وإنما تُرسَّخ من خلال سياسات عمومية عادلة، ومؤسسات قادرة على احتضان جميع مكونات المجتمع دون تمييز. فالتماسك الاجتماعي ليس نتاج الانتماءات الضيقة، بل نتيجة مباشرة لشعور الأفراد بالإنصاف وتكافؤ الفرص داخل الدولة.

وفي هذا الإطار، تبرز العدالة الإدارية بوصفها أحد أهم محددات الثقة بين المواطن والمؤسسات. فحين يسود الإحساس بالإنصاف، تتراجع النزعات القبلية والجهوية تلقائيًا، لأن الفرد يجد في الدولة إطارًا حاميًا لحقوقه، لا طرفًا منحازًا ضده. أما حين يغيب العدل، فإن الانتماءات الفرعية تتحول إلى آليات دفاع اجتماعي، تُضعف الدولة وتُقوّض مشروعها الوطني.

إن من أخطر مظاهر الخلل المؤسسي استمرار إقصاء الكفاءات الوطنية من مواقع القرار والتنفيذ، لا لقصور في الخبرة أو ضعف في الأداء، بل بسبب اختلافات إيديولوجية أو حسابات شخصية لا تمت للمصلحة العامة بصلة. هذا النمط من التسيير لا يؤدي فقط إلى هدر الرأسمال البشري، بل ينعكس سلبًا على جودة السياسات العمومية، ويحدّ من قدرة الإدارة على الابتكار والاستجابة الفعالة للتحديات.

وتزداد خطورة هذا الواقع عندما تتحول دواوين المسؤولين والإدارات المركزية إلى فضاءات مغلقة، تُدار بمنطق الولاء بدل الكفاءة، فتُجمَّد الخبرات، وتُقصى العقول النقدية، ويُستعاض عنها بخيارات قصيرة الأمد تفتقر إلى العمق والاستدامة. إن أي مشروع إصلاحي جاد لا يمكن أن ينجح في ظل إدارة لا تستثمر في خبراتها، ولا تحمي التنوع الفكري داخلها.

ومن منظور استراتيجي، فإن نبذ القبلية والجهوية لا يتحقق عبر الخطاب الأخلاقي وحده، بل من خلال سياسات واضحة تُجسّد مبدأ الجدارة، وتضمن تكافؤ الفرص، وتُعيد الاعتبار للكفاءة كمعيار وحيد للولوج إلى المسؤوليات. فحين يشعر المواطن أن موقعه في الدولة تحدده قدرته لا انتماؤه، يصبح الولاء للوطن أقوى من أي ولاء آخر.

إن بناء دولة فعّالة يتطلب شجاعة في مراجعة أنماط التسيير، وجرأة في فتح المجال أمام جميع الكفاءات الوطنية، واستعدادًا لتحويل العدالة من قيمة نظرية إلى ممارسة يومية داخل الإدارة. فالوحدة الوطنية ليست نتيجة تلقائية للتاريخ أو الجغرافيا، بل ثمرة خيارات سياسية وإدارية واعية.

أحمدو سيدي محمد الكصري

خبير وطني في التوجيه المهني وهندسة التكوين

Similar Posts