حين تجتمع أسباب الهلاك… قراءة في مفارقة الغنى والفقر في موريتانيا

author
0 minutes, 0 seconds Read

 

أخبار اليوم.   ليست الأمم التي تهلك فجأة، ولا تسقط دفعةً واحدة، بل تمضي نحو الانهيار بخطوات بطيئة، حين تجتمع فيها عناصر محددة تشكل معًا وصفة مؤكدة للفناء: فقرٌ مدقع ينهش حياة العامة، وثراءٌ فاحش وسريع تحتكره فئة ضيقة قريبة من مراكز القرار، وقوةٌ غاشمة لا تُسخَّر لحماية المجتمع بل لحراسة هذه الفوارق، وإعلامٌ مُدجَّن يقلب الحقائق، فيُلبس اللصوص ثوب الشرفاء، ويقدّم الفساد باعتباره إنجازًا.

في مثل هذا السياق، لا تعود العدالة ميزانًا للحق، بل تتحول — حين تُصمِّم على ملاحقة الضعفاء بكل صرامة، وتغلق في المقابل ملفات الفساد الكبرى بحجج “قانونية واعية” — إلى سياج أنيق يحرس الظلم، ويمنحه شرعية شكلية باردة. فالعدالة التي تكيل بمكيالين لا تخطئ فقط، بل تخون وظيفتها، وتفقد معناها الأخلاقي قبل أن تفقد ثقة الناس.

موريتانيا، في جوهرها، ليست بلدًا فقيرًا. الفقر الحقيقي ليس في الأرض ولا في خزائنها، بل في ضمائرٍ خاوية من الشرف، ترى في المال العام غنيمة، وفي أكل حقوق الناس تجارة مربحة. هذه البلاد تقف فوق ثروات هائلة: الحديد، والنحاس، والذهب، والغاز، والفوسفات، وربما اليورانيوم؛ ثروة سمكية من الأغنى عالميًا؛ ثروة حيوانية ضخمة؛ أراضٍ زراعية خصبة؛ مخزون مائي من بحيرات جوفية ومياه سطحية؛ نهر جارٍ، ومحيط يمكن تحلية مياهه. ومع ذلك، يعيش قطاع واسع من المواطنين على هامش الكفاف، ويكافح يوميًا من أجل أبسط شروط العيش الكريم.

وهنا تبرز الحقيقة الحاسمة: المشكلة ليست في وجود الثروة، بل في كيفية إدارتها. فالتجارب الدولية تثبت أن الموارد الطبيعية يمكن أن تكون أساسًا للعدالة لا سببًا للظلم. النرويج، مثلًا، لم تجعل من النفط سلّمًا لإثراء نخبة محدودة، بل حولته إلى عقد اجتماعي طويل الأمد عبر صندوق سيادي شفاف، يخضع لرقابة صارمة، ويُستثمر لصالح الأجيال القادمة، فانعكس ذلك في تعليم متقدم، وصحة عمومية قوية، وفوارق اجتماعية محدودة. وفي إفريقيا نفسها، اختارت بوتسوانا، الغنية بالألماس، مسارًا مؤسسيًا واضحًا، فصل بين السلطة السياسية وإدارة الثروة، وربط العائدات بالاستثمار في الإنسان والبنية التحتية، فأصبحت استثناءً إيجابيًا في قارة أثقلتها لعنة الموارد. أما ماليزيا، فقد نجحت في تحويل مواردها الطبيعية إلى رافعة تنموية عبر سياسات إدماج اجتماعي، حدّت من الفوارق الطبقية، وربطت النمو الاقتصادي بتوسيع الطبقة الوسطى، لا بتكديس الثروة في القمة. القاسم المشترك بين هذه النماذج ليس وفرة الموارد، بل وجود دولة قانون، ومؤسسات رقابة حقيقية، وإرادة سياسية تعتبر الثروة أمانة لا غنيمة.

في المقابل، تكشف المفارقة الموريتانية عن خلل بنيوي في توزيع الثروة وإدارة الشأن العام. الأخطر من نهب الأرزاق ليس فقدان المال ذاته، بل ما يفعله الاستبداد حين يُجفف منابع الثقة بين الناس: حين يصبح الأخ خصمًا لأخيه، والجار عينًا على جاره، والمواطن خائفًا من المواطن. عندها يضمن الظالم ألا تجتمع الأمة على كلمة حق، لأن الخوف والشك يصبحان أقوى من أي دعوة للعدل.

الإعلام، حين يفقد استقلاله، يتحول من سلطة رقابية إلى أداة تبرير. فهو لا يكتفي بتزييف الوعي، بل يعيد تشكيل الواقع في أذهان الناس، فيُقنعهم بأن الفشل نجاح، وأن الفساد حنكة، وأن الصمت حكمة. ومع تكرار الرسالة، يعتاد المجتمع على القبح، ويستأنس بالظلم، وتتحول المطالبة بالحقوق إلى تهمة.

إن أخطر ما تواجهه موريتانيا اليوم ليس نقص الإمكانيات، بل أزمة الثقة: ثقة المواطن في العدالة، وفي الدولة، وفي فكرة الإنصاف نفسها. ومتى انهارت هذه الثقة، لم تعد الثروات كافية لإنقاذ وطن، ولا القوانين قادرة على ضبط مجتمع.

الخروج من هذا المأزق لا يكون بالشعارات، بل بإرادة سياسية صادقة، وعدالة لا تعرف المحاباة، وإعلام مهني، وتوزيع عادل للثروة، وقبل ذلك كله: استعادة المعنى الأخلاقي للسلطة. فالأمم لا تنهض بكثرة ما تملك، بل بعدالة ما توزع، وصدق ما تحكم، ونقاء الضمير الذي يدير ثرواتها.

Similar Posts