اختلالات العدالة، أزمة الخدمات، ومخاطر تفكك الدولة
(قراءة تحليلية في ضوء نظريات الدولة وتجارب مقارنة)
مقدمة
لم يعد تذمّر الطبقة المفكّرة والنخب الواعية من تدهور الأوضاع المعيشية مجرّد احتجاج ظرفي، بل تحوّل إلى تشخيص عميق لأزمة دولة. أزمة تتجاوز ضعف الأداء الحكومي إلى خلل بنيوي يمسّ وظائف الدولة الأساسية: توفير الخدمات، حفظ الأمن، وضمان العدالة. وحين تتآكل هذه الوظائف مجتمعة، فإن الدولة لا تواجه أزمة شرعية عابرة، بل خطر تفكك صامت قد لا يُدرك إلا بعد فوات الأوان.
أولًا: فشل الخدمات العامة وانعكاساته البنيوية
وفق أدبيات علم السياسة (ماكس فيبر، بيير بورديو)، تُعد قدرة الدولة على توفير الخدمات الأساسية شرطًا جوهريًا لشرعيتها. غير أن الواقع يكشف تدهورًا حادًا في قطاعات حيوية:
منظومة صحية عاجزة عن تلبية الحد الأدنى من الاحتياجات.
تعليم يعاني الانهيار في الجودة والبنية والتكافؤ.
نقص مزمن في المياه والكهرباء، خاصة في المقاطعات والأرياف المعزولة.
هذا الخلل لا يُنتج فقط هشاشة معيشية، بل يُعمّق التفاوت المجالي، ويُحوّل الإقصاء من حالة استثنائية إلى بنية دائمة، ما يخلق ما يسميه بورديو بـالعنف البنيوي الصامت.
ثانيًا: انعدام الأمن في سياق التفكك الاجتماعي
تنامي الجرائم – من القتل والنشل والسرقة إلى الجريمة السيبرانية – لا يمكن قراءته بمعزل عن السياق الاجتماعي والاقتصادي. إلا أن الأخطر هو تحوّل الجريمة إلى حدث يومي مألوف، بما يعكس ضعف الردع، وغياب سياسة أمنية شاملة تربط بين الوقاية الاجتماعية والصرامة القانونية.
فالدولة التي لا تحتكر العنف المشروع بفعالية، تفقد إحدى ركائز وجودها الأساسية.
ثالثًا: العدالة الانتقائية وانهيار مبدأ المساواة أمام القانون
تشير نظرية العقد الاجتماعي (روسو) إلى أن قبول الأفراد بسلطة الدولة مشروط بعدالتها. غير أن الواقع يكشف نمطًا من العدالة الانتقائية، حيث:
يُسجن الفقير على سرقة رغيف أو قنينة غاز،
بينما يُعاد توصيف الجرائم الكبرى، خصوصًا في قضايا المخدرات والفساد،
تُخفى الشبكات، وتُغيَّر المحاضر، ويُقدَّم المتاجر كـ«مدمن»،
يُعاقَب من يقدّم الوثائق، ويُحمى من نهب المال العام.
هذا الانفصام بين النص القانوني والممارسة الفعلية يُنتج ما يسميه علماء الاجتماع بـموت القانون دون إلغائه.
رابعًا: المقارنة الدولية – دروس من تجارب مشابهة
تكشف التجارب الدولية أن هذا المسار ليس فريدًا، بل تكرّر في دول عدة:
أمريكا اللاتينية (كولومبيا، المكسيك سابقًا):
حين تهاونت الدولة مع شبكات المخدرات الكبرى، وتشدّدت فقط مع صغار الجناة، تفككت الثقة العامة، وازدهرت اقتصاديات الظل، قبل أن تضطر الدولة لاحقًا إلى إصلاحات أمنية وقضائية جذرية بكلفة باهظة.
بعض دول إفريقيا جنوب الصحراء:
أدّى الإفراج المتكرر عن الفاسدين ومعاقبة المبلّغين عنهم إلى انفجارات اجتماعية أطاحت بأنظمة قائمة، لا بسبب الفقر وحده، بل بسبب الإحساس العام بالظلم.
تجارب الإصلاح (رواندا، جورجيا بعد 2004):
أظهرت أن استعادة الثقة لا تبدأ بالنمو الاقتصادي، بل بإعادة بناء العدالة، وتجفيف الفساد من القمة، لا من القاعدة.
هذه المقارنات تؤكد أن أخطر ما تواجهه الدول ليس الفساد بحد ذاته، بل تطبيعه.
خامسًا: مآلات الاستمرار في الوضع القائم
إن استمرار هذا النمط يفتح مسارين لا ثالث لهما:
1. الانهيار الصامت: تآكل الشرعية، انسحاب المواطنين من الشأن العام، وانتشار اللامعنى.
2. الانفجار الاجتماعي: حين يدرك المجتمع أن القانون لم يعد أداة للعدل، بل وسيلة لإعادة إنتاج السيطرة الطبقية.
وكلا المسارين يؤديان إلى إضعاف الدولة، مهما بدا الاستقرار الظاهري قائمًا.
خاتمة
إن السؤال الحقيقي لم يعد: هل تعاني الدولة أزمة؟
بل: إلى متى يمكن لدولة أن تستمر دون عدالة؟
فالدولة التي تسجن الضعيف على صغائر السرقات، وتترك ناهبي الملايين يتبجحون، إنما تُراكم شروط انهيارها بيدها. ولا سبيل للخروج من هذا المسار إلا بإصلاح عميق يعيد الاعتبار لسيادة القانون، ويجعل العدالة ممارسة فعلية لا شعارًا، وسقفًا واحدًا لا أداة انتقائية.
