أخبار اليوم. تُنظِّم الدولة، منذ سنوات، مهرجان مدائن التراث بشكل دوري في إحدى المدن التاريخية المصنفة، مثل وادان وشنقيط وتيشيت وولاتة، وأحيانًا جَوْل. ويُقدَّم هذا المهرجان بوصفه حدثًا ثقافيًا وسياحيًا يهدف إلى تثمين الموروث الحضاري، والتعريف بالعمق التاريخي للبلاد، وإبراز صورتها أمام العالم، خاصة من خلال دعوة أعضاء السلك الدبلوماسي المعتمدين في نواكشوط.
غير أن المفارقة الصارخة تكمن في التناقض الحاد بين الخطاب الاحتفالي المصاحب للمهرجان، والواقع المعيشي القاسي الذي تعيشه هذه المدن وأهلها. فجلّ هذه الحواضر التاريخية تقع في مناطق جبلية أو صحراوية يصعب الوصول إليها، بسبب وعورة الطرق وغياب البنية الطرقية المعبدة، باستثناء حالات محدودة. كما تعاني من ضعف شديد، بل شبه انعدام، في البنى التحتية الأساسية: مدارس متهالكة، مرافق صحية محدودة أو غائبة، كهرباء غير مستقرة، ومياه شحيحة لا تفي بالحاجات اليومية للسكان.
ولا يحتاج الزائر إلى كثير عناء لاكتشاف عمق الأزمة؛ فملامح السكان وحدها تكفي. أجساد منهكة، ووجوه مطبوعة بالتعب، ومظاهر فقر لا تخطئها العين، تعكس مستوى معيشيًا متدنيًا، وتكشف عن فاقة مزمنة لا تُجدي معها الشعارات ولا المهرجانات الموسمية. وهنا يصبح السؤال مشروعًا: أي رسالة نبعث بها إلى الدبلوماسيين والضيوف الأجانب حين نأخذهم إلى مدن نحتفي بتاريخها، بينما حاضرها يرزح تحت الإهمال؟
إن الإشكال لا يكمن في فكرة المهرجان في حد ذاتها، ولا في الاحتفاء بالتراث، فذلك أمر مشروع وضروري. بل يكمن الخلل في اختزال العناية بالمدن التاريخية في تظاهرة احتفالية عابرة، تُصرف عليها ميزانيات معتبرة، دون أن تترك أثرًا تنمويًا مستدامًا في حياة السكان. فبدل أن تُوجَّه هذه الموارد إلى تعبيد الطرق، وبناء المدارس والمستشفيات، وتحسين خدمات الماء والكهرباء، وإنشاء بنى سياحية دائمة قادرة على جذب الزوار طوال العام، يتم استهلاكها في فعاليات مؤقتة تنتهي بانتهاء أيام المهرجان.
إن هذا النهج يعكس بوضوح ضعفًا في الحكامة، وسوء ترتيب للأولويات. فالتنمية الحقيقية لا تُقاس بعدد الخيام المنصوبة ولا بحجم الحفلات المنظمة، بل بمدى تحسُّن شروط العيش، وبقدرة السكان على الاستفادة من تراثهم بوصفه موردًا اقتصاديًا وسياحيًا مستدامًا. أما تحويل التراث إلى واجهة تجميلية تُستعمل لتلميع الصورة الرسمية، في حين يُترك الإنسان مهمشًا، فهو ضرب من المفارقة الأخلاقية قبل أن يكون خطأً تنمويًا.
إن مدائن التراث لا تحتاج إلى مهرجان سنوي بقدر ما تحتاج إلى رؤية شاملة، تجعل من الثقافة رافعة للتنمية، ومن الإنسان محورًا للسياسات العمومية. فحين تُبنى الطرق، وتتحسن الخدمات، وتُقام مرافق سياحية حقيقية، سيصبح الاحتفاء بالتراث فعلاً ذا معنى، لا مجرد شاهد إضافي على التقصير الحكومي في مجال التنمية المتوازنة.
