الحزب الحاكم واحتكار القيادة: سؤال التعدد المؤجل

author
0 minutes, 0 seconds Read

 

أخبار اليوم.    منذو تأسيس الحزب الحاكم في موريتانيا، حين كان يحمل اسم الحزب الجمهوري، مرورًا بسلسلة الأسماء التي كانت تتبدل بتبدل رأس النظام، ظل ثابتٌ واحد لا يتغير: طبيعة القيادة ومنطق اختيارها. حتى بات من الممكن – لولا سبق التسمية الأدبية في رواية الأديب أحمدو ولد عبد القادر – أن يُعرف الحزب باسم “ذو الأسماء المتغيرة”.

غير أن التحول في الاسم لم يكن يومًا مرآة لتحول في الجوهر. فمنذ ولادته السياسية، ظلت رئاسة الحزب، في معظم مراحلها، حكرًا على أبناء قبائل قليلة العدد، مع استثناء نادر أو اثنين، من بينها فترة وجيزة ترأس فيها الحزب أحد أبناء قبيلة مشظوف، وهي من كبريات القبائل الموريتانية عددًا وانتشارًا. لكن الاستثناء لم يتحول إلى قاعدة، بل بقي حادثة عابرة في مسار مغلق.

اليوم، ومع انعقاد المجلس الوطني للحزب، تحضيرًا لانتخاب – أو تعيين – رئيس جديد بعد انتقال الرئيس السابق إلى موقع وزاري، تعود الأسئلة القديمة بثقلها المعتاد:
لماذا تتكرر الأسماء ذاتها؟ ولماذا تنتمي الترشيحات المتداولة، مرة أخرى، إلى الدوائر الاجتماعية نفسها؟ والأهم: لماذا يتم تجاهل كفاءات حزبية مشهود لها بالخبرة والنجاح والتفاني؟

لقد شهدت مراحل متعددة من عمر النظام بروز شخصيات حزبية وازنة، شاركت في الحوار، وأسهمت في الاستقرار، ودافعت عن خيارات الحزب في أحلك الظروف. من بين هؤلاء، يبرز الدكتور سيد أحمد ولد الرايس، والأستاذ حمود ولد عبدي، والمهندس سيدي ولد دومان؛ وهي أسماء لا يختلف اثنان على عمق ثقافتها، ورصانتها السياسية، وحنكتها التنظيمية، إضافة إلى سجل واضح في خدمة الحزب والدولة.

غير أن الإشكال الحقيقي لا يكمن في نقص الكفاءة ولا في ضعف الولاء، بل في معادلة غير معلنة، مفادها أن الانتماء إلى حاضنة اجتماعية واسعة الانتشار قد يتحول إلى عنصر إقصاء بدل أن يكون مصدر قوة. فهؤلاء ينتمون إلى مكونات بشرية كبيرة، منتشرة أفقيًا في كامل التراب الوطني، لا تكاد تخلو ولاية من حضورها. وهي حقيقة يبدو أنها ما تزال تُقرأ، داخل دوائر القرار الحزبي، بوصفها عبئًا سياسيًا لا فرصة وطنية.

ومن الزاوية القانونية والدستورية، لا يمكن عزل هذا النقاش عن مفهوم الحزب الوطني الجامع. فالدستور الموريتاني، حين كرس التعددية الحزبية، لم يجعلها مجرد حق شكلي، بل آلية لضمان المشاركة المتكافئة، وتكافؤ الفرص، وتمثيل مختلف مكونات الأمة داخل الفعل السياسي. والحزب الذي يتولى الحكم، أو يهيمن على مفاصله، لا يُعد تنظيمًا سياسيًا عاديًا، بل يصبح – بحكم الواقع – وسيطًا بين الدولة والمجتمع، ومطالبًا بأن يعكس هذا التعدد، لا أن يختزله. إن احتكار القيادة داخل دوائر اجتماعية ضيقة، حتى وإن لم يصطدم حرفيًا بنص دستوري صريح، يتعارض مع روح الدستور، لأنه يفرغ مبدأ المساواة في الولوج إلى المسؤوليات السياسية من مضمونه، ويحوّل الحزب من إطار وطني جامع إلى بنية مغلقة تُدار بمنطق التوازنات لا بمنطق الاستحقاق.

إن هذا المنطق، الذي يربط القيادة الحزبية بضيق القاعدة بدل اتساعها، لا يحمي الحزب كما يُتوهم، بل يضعفه من الداخل. فهو يغلق أبواب الأمل أمام كفاءات داخلية، ويبعث برسائل سلبية إلى قواعده الواسعة، ويكرّس شعورًا صامتًا بالإقصاء، لا يلبث أن يتحول إلى فتور، ثم إلى عزوف، وربما إلى قطيعة سياسية غير معلنة.

تجديد الحزب لا يبدأ بتغيير اسمه، ولا بتدوير المواقع داخل الحلقة نفسها، بل بتحرير القيادة من منطق الاحتكار، وإعادة الاعتبار لمعايير الكفاءة، والانتشار الوطني، والقدرة على الجمع لا الإقصاء. فالحزب الذي يحكم، مطالب قبل غيره بأن يكون صورة مصغرة للوطن، لا مرآة لانغلاقه.

وفي النهاية، فإن السؤال لم يعد تنظيميًا داخليًا، ولا مرتبطًا بأشخاص بعينهم، بل بات سؤالًا يمس جودة التجربة السياسية نفسها:
هل يملك الحزب الحاكم الشجاعة السياسية لكسر الحلقة المغلقة، والانحياز لمنطق الدولة الجامعة؟
أم سيواصل الدوران في المسار ذاته، إلى أن تفرض الوقائع ما لم تفرضه القناعات؟

Similar Posts