أخبار اليوم. يشهد المشهد السياسي الموريتاني حراكًا متسارعًا تُرفع فيه شعارات الحوار مرة أخرى، وكأن البلاد تدخل — للمرة الرابعة أو الخامسة — في الحلقة ذاتها دون أن تتغير الشروط أو تتبدل الأسئلة. وفي وقت تتباين فيه مواقف القوى السياسية بين المشاركة والتحفظ، تبدو ملامح الحوار الراهن أقرب إلى إعادة ترتيب مواقع اللاعبين منه إلى استجابة لحاجة وطنية ملحّة. هنا يبرز سؤال جوهري: من يريد الحوار حقًا؟ وما الذي يُراد الوصول إليه عبره؟
بين حسابات الفاعلين وضرورات الدولة
رغم إعلان بعض الأطراف رفض المشاركة في الحوار، عادت شخصيات مؤثرة مثل بيرام الداه اعبيد لتطرح شروطًا جديدة للدخول فيه، في خطوة تُظهر أن المواقف الأولية لم تكن نهائية. ويبدو أن عودته جاءت بعد سلسلة من المشاورات مع حركة «فلام»، ما يعكس تنسيقًا أو تقاطعًا في الحسابات، أو حتى تفاهمًا حول إعادة طرح الملفات القديمة للحركة على طاولة النقاش.
وفي السياق ذاته، تبدو «فلام» وحدها الجهة الأكثر حماسًا للحوار، خصوصًا بعدما وجدت من يتولى — صراحة أو ضمنيًا — إعادة تسويق مطالبها التاريخية المتجددة. وهذا يفتح الباب لسؤال آخر: هل نحن أمام حوار وطني شامل أم أمام أجندات جزئية تُدار عبر وسطاء سياسيين؟
أما على مستوى الدولة، فإن الجدل يزداد حول مبررات الدعوة إلى الحوار من الأساس. فالدستور يمنح الرئيس صلاحيات واضحة، لكنها لا تتضمن قيادة الحوارات السياسية كوظيفة دائمة أو متكررة. وبالتالي يحق للمراقب أن يتساءل:
إذا كان الهدف هو تعديل الدستور، فالأدوات القانونية متاحة عبر الاستفتاء الشعبي من دون الحاجة إلى مسار حواري طويل وفضفاض. أما إذا كان الهدف غير معلن، فإن الحوار يتحول إلى غطاء سياسي لخطوات لا يراد لها أن تظهر مباشرة للرأي العام.
حوار بمطالب قديمة… وبوجوه جديدة
إعادة طرح مطالب «فلام» عبر أطراف سياسية أخرى يدل على خلل أعمق في البنية التمثيلية، ويعكس ضعفًا في قدرة المؤسسات على استيعاب القضايا العالقة ضمن إطار وطني جامع. فبدل أن تُناقش الملفات في سياق بناء الثقة، تتحول إلى رهانات انتخابية أو أوراق ضغط تُستخدم وفق ميزان اللحظة.
إن الحوار — حين يتحول إلى مناسبة دورية — يفقد وظيفته الأصلية بوصفه أداة لحل الإشكالات البنيوية، ويصبح مجرد محطة لإعادة تدوير الخلافات ذاتها. وهذا ما جعل قطاعات واسعة من الرأي العام تتساءل عن جدوى كل هذه الدعوات التي لا تترك أثرًا مؤسسيًا حقيقيًا بعد انتهائها.
خاتمة
إن البلاد اليوم أمام مفترق طرق: فإما حوارٌ وطنيٌ صادق يعالج القضايا الجوهرية ضمن رؤية جامعة لا تستثني أحدًا، وإما حوارات موسمية تُدار بمنطق المقايضات، فتكرس الانقسام بدل تجاوزِه.
الحوار الحقيقي هو الذي يرمم الثقة ويعزز حضور الدولة، لا ذاك الذي يُعاد تنظيمه كلما ظهرت تحالفات جديدة أو تغيّرت حسابات أطرافٍ تبحث عن مكاسب ظرفية.
فموريتانيا تحتاج إلى عقد سياسي جديد يضع الدولة فوق الجميع، ويُعيد ترتيب العلاقة بين الفاعلين على أساس المسؤولية المشتركة، لا على أساس تبادل الأدوار في طرح المطالب أو بيع الوهم. وفي نهاية المطاف، يبقى السؤال قائمًا: هل نريد حوارًا يبني الدولة، أم حوارًا يُبنى حوله؟
