أخبار اليوم. تشهد العديد من الدول النامية اليوم ظاهرةً مركّبة يتقاطع فيها تراجعُ الثقة في المؤسسات مع صعود التفاهة الاجتماعية، وتآكل الطبقة الوسطى، وهيمنة الأنماط الاستهلاكية على حساب الانتماء الوطني. وفي السياق الموريتاني، تتجلى هذه الظواهر بوضوح في السلوكيات الفردية والجماعية التي تنعكس على خيارات النخب الاقتصادية والسياسية، وعلى الموقف العام من المعرفة، وعلى مستوى الوعي المدني لدى فئات واسعة من المجتمع. وهو ما يستدعي مقاربة تحليلية تفكك الأسباب الكامنة خلف هذا المسار، وتستشرف آثاره على مستقبل الدولة والمجتمع.
أولاً: الاغتراب الوطني وسلوك النخب الاقتصادية
يُستحضر في هذا السياق قولٌ يُنسب إلى غاندي: “من يتغذى من خيرات وطنه ويحب وطناً آخر، إنما يختار اغتراباً متعمداً”. ويجد هذا المعنى صداه في المشهد الوطني حين يتسابق بعض النافذين على تحويل ثرواتهم إلى الخارج عبر شراء المنازل والاستثمارات في إسبانيا والمغرب وتركيا وغيرها.
وتكشف هذه السلوكيات عن عاملين أساسين:
1. انعدام الثقة في استقرار البيئة الداخلية، وهو ما يعكس تصوراً بأن الوطن لم يعد يشكل “ملاذاً” آمناً نتيجة المسارات الخاطئة في إدارة المال العام والاقتصاد الريعي.
2. تفعيل انتماء اقتصادي بديل، يؤسس لارتباط مصالح هؤلاء بمراكز خارجية، فيتحول ولاؤهم المالي – ومن ثم السياسي – بعيداً عن الوطن.
هذه الظاهرة ليست مجرد خيار فردي؛ إنها مؤشر على الانفصال التدريجي بين الدولة ومَن يُفترض أن يكونوا حراسها الاقتصاديين.
ثانياً: العلم والمعرفة بين الاضطهاد والاستهجان
يشيع في الثقافة الشعبية قولٌ مرير: “كلما زاد علمك اقتربت من السجن، وكلما زاد جهلك اقتربت من الحكم، وكلما زادت تفاهتك اقتربت من الشهرة”.
وهذا القول، رغم مبالغته، يعكس حقيقة مؤسفة: تراجع قيمة الكفاءة والمعرفة في فضاء عام تُسيطر عليه الولاءات الشخصية والزبونية أكثر من سياسات الجدارة والشفافية.
وتتجلى هذه الأزمة في مستويين:
1. مستوى مؤسسي
حيث تُفرَض ضغوط غير مباشرة على الكفاءات المهنية والأكاديمية، فتتقلص مشاركتها في صناعة القرار، ويُستبدل دورها الوظيفي بدور شكلي.
2. مستوى ثقافي-اجتماعي
إذ أصبحت الكتابة الرصينة والتحليل النقدي العميق محصورةً في دائرة ضيقة من المتابعين، بينما تتصدر مشاهدَ التواصل الاجتماعي محتوياتٌ سطحية تحظى بالإعجاب والإشادة والمشاركة، في مشهد يؤكد صعود “اقتصاد التفاهة”.
ثالثاً: الدور الخفي للدولة العميقة وإضعاف التعليم العمومي
ساهمت طبقات النفوذ الموروثة من البُنى الاستعمارية في إعادة إنتاج منظومةٍ تُضعف التعليم العمومي، وتفتح الطريق لخوصصة غير معلنة.
وقد أدركت شرائح اجتماعية واسعة هذا الاتجاه، فبادرت إلى تحمّل أعباء تعليم أبنائها خارج المنظومة الرسمية، إدراكاً منها لخطورة تمييع التعليم وغياب العدالة التربوية.
ويُعدّ تراجع جودة المدرسة العمومية أحد أكبر عوامل تفكك اللحمة الوطنية، لأنه يخلق مسارات طبقية متوازية:
مسار للأقوياء وأبناء النافذين،
ومسار للفئات الهشة التي تصبح أكثر عرضة للتسرّب المدرسي، والمخدرات، والجنوح، وحتى ما يشبه الحرابة في بعض الحالات.
وهذا الواقع يُنذر بإنتاج دائرة جديدة من العنف الاجتماعي وفقدان الثقة في الدولة.
رابعاً: هندسة الكراهية وتسييس الهشاشة الاجتماعية
رغم أن أشكال الجنوح والجريمة قد تبدو محصورة في فئات اجتماعية معينة، فإن المنطق البنيوي للظلم الاقتصادي والسياسات الإقصائية يطال الجميع دون استثناء.
وقد حاولت بعض مراكز النفوذ توظيف هشاشة شريحة معيّنة لخلق “خطاب كراهية” يُستخدم كأداة لتشتيت الرأي العام وإضعاف التضامن الوطني.
لكن وعي العقلاء من هذه الشريحة – ومن غيرها – جعل هذا الخطاب محدود الأثر، لأن الظلم يعبر الحدود الاجتماعية بلا تمييز.
خامساً: انفجار الوعي وانحسار الخوف
تبدو السلطة التقليدية اليوم أمام مشهد جديد: انخفاض منسوب الخوف الشعبي من النظام، خصوصاً لدى الفئات الهشة التي فقدت كل ما يمكن أن تخسره.
وفي ظل تزايد النقمة الاجتماعية وانغلاق قنوات التعبير المؤسساتي، تتصاعد احتمالات الاحتقان، خصوصاً في مجتمع ترتفع فيه نسب البطالة، والتسرّب المدرسي، والإقصاء الاقتصادي.
خاتمة: نحو إعادة بناء عقد اجتماعي جديد
إن تفكك الثقة، وصعود التفاهة، واغتراب النخب، وتراجع التعليم، وتعميم الجهل، ليست مجرد أعراض متفرقة، بل حلقات في سلسلة تُنذر بانسداد تاريخي إذا لم تُتَّخذ إجراءات إصلاحية جذرية.
وتكمن البداية في:
استعادة هيبة القانون ومكافحة الفساد بلا انتقائية.
ترميم المدرسة العمومية بوصفها حجر الزاوية في العدالة والمواطنة.
إعادة الاعتبار للنخب الفكرية عبر إشراكها في صنع السياسات العامة.
بناء إعلام يُعلي الجودة على حساب التفاهة.
وتجديد العقد الاجتماعي بحيث يستعيد المواطن شعوره بأن وطنه ليس مجرد جغرافيا، بل ملكية مشتركة تستحق الدفاع والعمل من أجلها.
بهذا فقط يمكن الانتقال من دائرة الغضب إلى أفق الإصلاح، ومن واقع الاغتراب إلى مشروع وطني جامع يعيد للوطن مكانته وللمجتمع توازنه.
