أخباراليوم. عد قضية الأراضي الزراعية واحدة من أكثر الإشكالات البنيوية تعقيداً في موريتانيا، نظراً لتداخل جذورها التاريخية مع التشكل الاجتماعيّ للقبائل، وتطور الأنماط الاقتصادية، والتحولات التي أحدثها الاستعمار ثم الدولة الوطنية. ومع بروز أشكال جديدة من التشظي الاجتماعي والصراع الطبقي، أعيد فتح هذا الملف القديم بحدة غير مسبوقة، الأمر الذي يستدعي قراءة مؤسّسة تُوازن بين الموروث والمواثيق القانونية، وتحفظ حقوق الأفراد والجماعات دون انحياز أو تشهير.
أولاً: الطبيعة التاريخية لملكية الأرض في المجال الموريتاني
لم تكن موريتانيا استثناءً في تاريخ البشرية؛ فقد عرفت – كسائر المجتمعات – أنماطاً من الاستغلال الاجتماعي، بما فيه الرق، شأنها شأن الدول التي تصف نفسها بالحرّة. غير أنّ البنية القبلية في الفضاء البيظاني أوجدت منظومة ملكية جماعية للأرض، تتوزع بين مجالات الرعي، والزراعة، وجمع الصمغ العربي، وتُدار عبر أعراف واضحة يتوارثها الجميع.
قبل دخول المستعمر، كانت لكل قبيلة أملاك عقارية معروفة الحدود تُستغل وفق قاعدة أساسية: من يزرع أو يعيد بناء السدود ويشارك في إعمار الأرض يملك حق الانتفاع أو جزءاً من الرقبة، وهو نظام شبه تعاقدي يقوم على الجهد والمشاركة.
ثانياً: تدخل الإدارة الاستعمارية وتأثيره
عندما بسطت الإدارة الفرنسية سيطرتها على لبراكنة ومناطق أخرى، أعادت صياغة العلاقة بين القبائل والأرض. فأصبحت عملية “التشريع” تمر عبر المكاتب الدائرة، وتُسجَّل الأراضي باسم المجموعات المتقدمة بطلبات معللة.
وقد كانت أسرة أهل الركاد من فخذ المتغمبرين من أوائل من بادروا إلى مخاطبة الإدارة الاستعمارية في مطلع القرن العشرين، تحت زعامة محمد الأمين ولد سيد أحمد الركاد.
وأسهم موقع الفخذ الجغرافي—قرب شمامة وممرات القوافل—في جعل أراضيه محوراً للحركة التجارية، خصوصاً قوافل الصمغ العربي القادمة من آدرار وتكانت، بما فيها من مجموعات كنتة. ومع مرور الزمن نشأت شبكة من المصالح والعهود انعكست على تنظيم الأرض وطريقة اقتسامها.
وقد اتسع نطاق استغلال الأراضي في مناطق: بابابي، لمعود، عريظ، بيلمارو، أم الويش، وأبلخطاير، وبعضها كان صالحاً للزراعة وبعضها مغطى بغابات القتاد المنتجة للصمغ العربي. وكانت السدود الرملية – كسد لمعود وعريظ – تُبنى سنوياً بالأيدي، ويُوزَّع الانتفاع وفق قاعدة عادلة: من بذل جهداً نال نصيباً، سواء كان من أهل الفخذ أو وافداً بدافع القرابة أو التحالف.
ثالثاً: مرحلة الدولة الوطنية وتطور التشريع العقاري
بعد الاستقلال، اعتمدت الدولة آلية قانونية رسمية لتثبيت الملكية:
من يتقدم بطلب منح أرض غير مشغولة تُعلّق عريضة طلبه ثلاثة أشهر على جدران المقاطعة.
فإذا لم يأت معترض يُثبت ملكيته سُلّمت الأرض للمتقدم.
ثم جاء الإصلاح العقاري، مؤكداً نفس القاعدة: نزع الملكية لا يتم إلا وفق شروط محددة، ولا يطال أراضي ثابتة الملك قبل نشأة الدولة ما لم تكن هناك مصلحة عامة واضحة وتعويض منصف.
وعليه فإن الأراضي المملوكة للقبائل قبل قيام الدولة لا يجوز سحبها منها بمنطق الانتماء الطبقي أو الاعتبارات الاجتماعية الطارئة، لأن ذلك يصطدم بمبدأ دستوري وقانوني هو: حماية الملكية الخاصة والجماعية وعدم جواز نزعها إلا للمنفعة العامة وبموجب تعويض عادل.
رابعاً: في الاتهامات الراهنة حول أسرة أهل الركاد
شهدت الفترة الأخيرة موجة من التشهير بأسرة أهل الركاد واتهامها بالاستحواذ الظالم على الأراضي الزراعية. وهنا تقتضي الموضوعية توضيح ما يلي:
1. أن ملكية هذه الأسرة لأراضٍ في لمعود وعريظ تعود إلى عقود من المشاركة الفعلية في بناء السدود وإعمار الأرض، وهي ملكيات ثابتة عرفاً وعملاً وإدارةً منذ الحقبة الاستعمارية.
2. أن الأنصبة كانت توزَّع بالتراضي، ولم تكن ممارسة التسيير مبنية على الإكراه بل على التفاهم، نظراً للدور المركزي الذي كان آل الركاد يقومون به في حماية المجال وتصريف النزاعات وتثبيت الحقوق باسم مجموعتهم.
3. أن بعض المذعات الأخيرة جاءت من أشخاص لا ينتمون إلى الفخذ أصلاً، ولا تفصل بين ديارهم وبين أراضي الركاد سوى مسافات قصيرة، ويدّعون حقاً لم يكن لهم تاريخياً ولا عرفياً.
4. أن بعض المطالبات الحالية تستند فقط إلى موقع الأسرة كزعامة تقليدية، لا إلى سند قانوني أو حجّة ملك، وهو ما يجعل هذه الدعاوى وصفاً دقيقاً لـ “الاستقواء بالتصنيفات الاجتماعية” وليس استرجاعاً لحقوق ضائعة.
5. إن الحاكم أو الوالي – وفق القانون – لا يملك صلاحية سحب أراضٍ ثابتة الملك قبل إنشاء الدولة وتسليمها لمجموعة أخرى بدعوى الانتماء لفئة اجتماعية معينة (مثل الخراطين أو غيرهم).
هذه المسألة محكومة بالقانون لا بالانتماءات، والتمييز في منح الأراضي يخالف الدستور والمبادئ العامة للمساواة.
خامساً: ضرورة معالجة الملف بمنهج قانوني لا اجتماعي
إقحام البعد الطبقي في كل نزاع عقاري يهدد السلم الأهلي ويفتح الباب للتصعيد بين مجموعات عاشت قروناً في وئام وتشارك. فالواجب هو:
العودة إلى سجلات الإدارة الاستعمارية وما تلاها من وثائق ملكية محلية.
الاستناد إلى القانون العقاري الوطني وليس الأعراف الانتقائية.
اعتماد خبرات مستقلة في التحقيق الطبوغرافي والتاريخي.
حماية حقوق الملاك الأصليين وعدم التمييز بين المواطنين على أساس طبقي.
خاتمة
إن ملف الأراضي الزراعية في موريتانيا ليس مجرد تنازع على الرقعة الجغرافية، بل هو امتحان لقدرة الدولة والمجتمع على احترام التاريخ والوثيقة والحق. ولا يمكن لأي إصلاح عقاري أن ينجح إذا تحول إلى أداة لتسوية صراعات اجتماعية.
وإن أسرة أهل الركاد – كغيرها من الأسر والجماعات – لها ما لها وعليها ما عليها، ولكن تحميلها ظلماً مسؤولية نزاعات جديدة يتعارض مع الوقائع التاريخية والمعايير القانونية، ويهدد بتحويل الخلافات الفردية إلى صدام قبلي لا يخدم أحداً.
إن الطريق الأمثل هو الاحتكام إلى الوثائق، والقانون، والتحقيق العلمي، بعيداً عن التشهير، وعن محاولات استضعاف أي فخذ أو قبيلة أو أسرة، لأن الدولة لا تُبنى على الانتقام الطبقي بل على العدل.
