أخبار اليوم. منذ قرون، وضع ابن خلدون في مقدمته الشهيرة قانوناً اجتماعياً خطيراً ظلَّ حيًّا حتى اليوم، وكأنه ينظر بعين الغيب إلى واقعنا المعاصر؛ إذ قال:
«لا تُعلِّموا أبناء السفهاء منكم، فإن تعلموا فلا تُولّوهم شؤون الجند ولا القضاء، فإنهم إن تعلموا صاروا ذوي مناصب ونفوذ فيجتهدون في إذلال الأشراف ويتطاولون على مقام الدولة.»
هذه العبارة لم تكن دعوة للتمييز الطبقي، بل تحليل آليّة خطيرة: حين تتحوّل المعرفة والسلطة إلى أدوات انتقام اجتماعي، تصبح الدولة مجرّد مسرح لتصفية الحسابات، ويُستبدل مشروع الأمة بمشروع الأشخاص، والطبقة المتعلّمة تتحول من “نخبة” إلى “أذرع” تُدار من الخلف.
هذه الفكرة ذاتها لمسها الملك فاروق الأول حين أصدر ـ وفق ما يُحكى ـ قراراً يمنع دخول كليات الطب والحقوق والشرطة والحربية إلا لمن كان من أسر عُرفت بالسيرة الكريمة، لأن تولية من لا أخلاق لهم أخطر على الدولة من جهلهم… إذ إن الأخلاق إذا غابت، صارت السلطة سلاحًا في يد من يجيد الصعود لا من يجيد البناء.
من تحليل ابن خلدون… إلى واقع موريتانيا
إذا حاولنا أن نُنزل الرؤية الخلدونية على الواقع الموريتاني، برزت أمامنا معضلة تكوّن “نخب رسمية” بلا جذور مجتمعية، وبلا رصيد أخلاقي، وُضعت في مفاصل حساسة — خاصة بعد حقبة العسكرة — لتكون أداة تحكم لا أداة بناء.
فبعض الجنرالات ـ عبر مراحل متعاقبة ـ لم يدفعوا إلى الواجهة نخبة راسخة أو ذات كفاءة اجتماعية ومهنية، بل نسقاً جديداً من “النخب الوظيفية”:
تُعيّن لأنها لا تملك قوة اجتماعية تتيح لها التمرد؛
تُطاع لأنها لا تملك قاعدة يمكن أن تحاسبها؛
وتُستخدم لأنها يمكن التضحية بها في اللحظة المناسبة دون كلفة سياسية أو أخلاقية.
لكن التاريخ الخلدوني يعلّمنا أن من يَقبل أن يُدار من الخلف، يتعود على أن ينقضّ على الأمام؛ وهنا يكمن الخطر. فبمجرد أن تقوى هذه النخب بموارد الدولة، تبدأ في خلق مساحة نفوذها الخاصة، وتتحول من أدواتٍ إلى عقبات، ومن منفّذين إلى طامعين.
الصراع الخفي: حين تخرج «الأذرع» من القفص
اليوم، تتعدد الإشارات إلى صراع أجنحة داخل النظام، لم يعد خافياً كما كان. وعلى منصات التواصل، وفي بعض القراءات السياسية، بدأت الأسماء تتردد… ليس باعتبارها نخباً وطنية، بل باعتبارها مراكز نفوذ نُسجت خيوطها في الظل.
ويبدو أننا دخلنا مرحلة خطرة:
مرحلة تشبه ما وصفه ابن خلدون حين قال إن السلطان «إذا استعان بالموالي والغرباء ضعف وجدانه، وتزلزلت عروقه، وسقطت عبارته عن القلوب».
من أبرز المؤشرات الأخيرة:
المشهد الذي خلفه مؤتمر الشباب الأخير، والذي بدا وكأنه ساحة صراع مقنّع بين مجموعات تبحث عن إثبات حضورها في السلطة.
ثم زيارة الرئيس للحوض الشرقي، التي قرأها كثيرون على أنها محاولة لتثبيت شرعية في وجه صراع داخلي بدأ يخرج من الكواليس إلى المجال العام.
النتائج البعيدة المدى: ماذا تقول لنا المقدّمة؟
ابن خلدون يخبرنا أن أخطر ما يهدد الدولة ليس الغزو الخارجي… بل دخول المتطلعين إلى السلطة بلا مشروع عمران. يقول:
> «إذا تولى الجاهل أمور الناس، سعى في خراب العمران، لأنه لا يعرف طباع الاجتماع الإنساني.»
هذه النخب ـ إن لم تُراجع ـ ستقودنا إلى أربع نتائج محتملة وخطيرة:
1. تآكل شرعية الدولة وانشطار الثقة بينها وبين المجتمع.
2. ضعف القدرة الإدارية والتنموية، لأن المناصب تصبح مجرد مكافآت للولاء.
3. تحويل التنافس السياسي إلى صراع إثني أو جهوي، وهو أخطر من أي خلاف سياسي طبيعي.
4. هجرة الكفاءات وتهميش أصحاب الخبرة الحقيقيين، مما يدخل البلاد في فراغ قيادي قاتل.
هنا فقط نفهم عمق العبارة الخلدونية:
> «الملك لا يقوم إلا بالعصبية، فإذا ضاعت العصبية… ضاع الملك.»
العصبية هنا ليست القبيلة، بل العصبية المؤسسية: شعور من في الدولة بأنهم جزء من مشروع واحد لا من محاصصة عابرة.
موريتانيا عند منعطف حاد
اليوم تقف موريتانيا أمام خيارين:
إما مراجعة بوابة التعيين والتكوين المهني، وتثبيت الدولة في مسار مؤسسي يحمي شرعيتها،
وإما ترك بوابة السلطة مفتوحة أمام الطامحين بلا جذور، فتتحول الدولة إلى ساحة صراع عرقي وجهوي، خاصة وأن الحدود ملتهبة، والتوازنات الإقليمية هشة.
لقد ظهرت خلال السنوات الأخيرة خطابات جديدة تدّعي الدفاع عن الوطن، لكنها في العمق تتحول إلى احتكار للوطنية وتوسيع لدائرة التخوين، وتجارب «حرطون» وبعض المواد الإعلامية تؤكد أن الشرارة قد تكون ثقافية قبل أن تصبح سياسية — وهذا عين ما حذر منه ابن خلدون حين قال:
> «إذا فسد اللسان فسد البيان، وإذا فسد البيان عمّ البلاء.»
في الخلاصة… درع خلدوني قبل فوات الأوان
ليس المطلوب إقصاء الناس على أسس اجتماعية، بل حماية الدولة من أن تتحوّل المناصب إلى مكافآت، والتعليم إلى سُلّم انتقام، والوظيفة العمومية إلى ساحة تصفية.
فالدولة الحديثة لا تُبنى بالولاءات المؤقتة… بل بخبرة واضحة، ونخبة مسؤولة، ومسار مهني شفاف.
وإن كان ابن خلدون قد حذر من «تولي السفهاء» فدولتنا اليوم مدعوة إلى أن تُحسن صناعة النخب، لا إلى أن تستوردها أو تُلفّقها.
فإصلاح بوابة التعيين هو حماية للسلطة من نفسها، وتحصين اجتماعي قبل أن يكون قراراً سياسياً.
وليس بعد هذا القول، من كلمة أقوى من قول ابن خلدون:
> «إذا فسد الأساسُ… فلا تستقيم البنيان.»
