أخبار اليوم. في كثير من مناطق البلاد لا يشعر المواطن أن الدولة موجودة، إلا حين تُرسل فريقًا لإحصائه وتصنيفه ضمن خانة “الأسر الأشد فقرًا” ثم تمنحه مبلغًا لا يتجاوز اثنين وعشرين ألف أوقية قديمة! وكأن الفقر يُعالج بالأرقام… لا بالخيارات.
إنّ أخطر ما يمكن أن تواجهه أي دولة هو تطبيع الهشاشة وتحويلها إلى وضع اعتيادي. فحين يصبح الدعم النقدي سياسة عامة، يتراجع دور الدولة من صانعة للأمل إلى مُسكن مؤقت للألم. وحين تكتفي الحكومة بمسح اجتماعي ثم تمنح الصدقات، فإنها لا تحارب الفقر… بل تديره.
لقد أثبتت تجارب قريبة منا أن التنمية ليست مالًا يُوزَّع، بل نظامًا يُبنى. وأن غياب التخطيط يُنتج بطالة، ويُعطّل التعليم، ويخلق هوّة صامتة بين المواطن والدولة. فالمال حين لا يُستثمر في الإنسان يفقد قيمته الاجتماعية ويتحوّل إلى سببٍ إضافي للأزمة.
أين يكمن الخلل؟
المنهجية المتَّبعة في برامج “محاربة الفقر” تقوم على ثلاث خطوات بسيطة وخاطئة:
1. إحصاء الأسر الأكثر هشاشة؛
2. تعهّدها بمبالغ ضعيفة لكنها مستمرة؛
3. إعلان ذلك إنجازًا.
بهذا الشكل، يتحول الفقير إلى رقم، والمشكلة إلى ملف إداري، والكرامة إلى بند ثانوي في جدول الاجتماعات. والنتيجة: استمرار الأزمة، وتوارث الفقر، وتحييدُ التعليم عن دوره في تغيير الواقع.
مقاربة بديلة: من المواطن المتلقّي إلى المواطن الشريك
السياسة الاجتماعية التي نحتاجها يجب أن تعيد للمواطن دوره الطبيعي: منتجًا لا متسولًا. ويمكن للدولة – عبر نفس الموارد المبدّدة اليوم – أن تنشئ نموذجًا اقتصاديًّا محليًّا قابلًا للحياة، عبر آلية تشاركية واضحة المعالم:
إنشاء وداديات قروية تُشرف عليها هيئات مختصة في كل ولاية؛
إحصاء الأسر داخل كل قرية بدقة، مع منح دفتر للأسرة يتضمن عدد أفرادها واحتياجاتها؛
فتح مخزن تمويني في كل قرية، يُدار بشفافية من شبابٍ مُكوَّن من أبناء المنطقة؛
حصول كل أسرة على حصتها الغذائية وفق جدول غذائي عالمي وبسعر مدعوم؛
بيع الفائض بسعر السوق للطبقة المتوسطة، واستثمار الأرباح في بناء مساكن للأسر التي لا مأوى لها؛
دعم مشاريع مدرة للدخل: مخابز، مجازر، مزارع مروية، وإنتاج غلال موسمية؛
دراسة إمكانية تجميع القرى حول مشروع زراعي مركزي يضمن الاكتفاء الغذائي ويوفّر فرص عمل حقيقية.
هذه المقاربة ليست مثالية، لكنها أكثر احترامًا للإنسان من سياسة الأظرف المالية التي يتم صرفها اليوم؛ فالمساعدة قد تُسكت الجوع، لكنها لا تصنع الكرامة.
من أجل قرار شجاع
لقد أصبح من الضروري أن تنتقل الدولة من سياسة “التسكين” إلى سياسة “البناء”. وأن تتوقف عن اعتبار الفقر مجرد ملف إداري، بل تعتبره مؤشرًا وطنيًّا على نجاحها أو فشلها.
ولئن كانت الحكومات تقاس عادةً بمشاريعها الكبرى، فإن أكبر مشروع تنموي في هذا الوقت هو إنقاذ الإنسان نفسه… من أن يصبح مجرد رقم في قاعدة بيانات.
الإنسان لا يطلب مالًا يُعطى… بل يسأل عن فرصة تُصنع.
