المجتمع المدني: بين النشأة الأوروبية والواقع الموريتاني
نشأة المجتمع المدني: من بريطانيا إلى الفكر المعاصر
المجتمع المدني ليس مجرد مصطلح أكاديمي، بل هو فضاء حي وفاعل ينظم حياة الجماعة خارج نطاق الدولة، ويتيح للأفراد والجماعات التعبير عن مصالحهم، والمشاركة في صياغة القرار الاجتماعي والسياسي بوسائل سلمية.
نشأ مفهوم المجتمع المدني بوضوح في أوروبا الغربية، خصوصًا في بريطانيا خلال الثورة الصناعية. ففي تلك الحقبة، ومع تصاعد أعداد الشغيلة، بدأت تظهر جمعيات ومنظمات طوعية تهدف إلى الدفاع عن مصالح العمال والفئات الوسطى، ونشر الوعي الاجتماعي والسياسي. لم تكن هذه المنظمات تسعى للسلطة، بل كانت تعمل على حماية المجتمع من الفوضى والانفجار الاجتماعي عبر تنظيم المطالب الاجتماعية والحقوقية.
يشير التاريخ إلى أن غياب مجتمع مدني واعٍ ومؤطر يمكن أن يؤدي إلى ثورات عنيفة، كما حدث في روسيا القيصرية، حيث لم تمتلك الجماهير قنوات سلمية للتعبير عن مطالبها، فكان الانفجار الثوري المحتوم نتيجة طبيعية للغياب التنظيمي المدني. أما في بريطانيا، فوجود مجتمع مدني قوي ساهم في احتواء التوتر الاجتماعي والسياسي، ومنع اندلاع ثورة عنيفة، رغم شدة الاستغلال والصراع الطبقي في ذلك العصر.
أهداف المجتمع المدني: حامي الحقوق ومروج التوعية
يمكن تلخيص أهداف المجتمع المدني في عدة محاور رئيسية:
1. حماية الحقوق والحريات: يعمل المجتمع المدني على الدفاع عن الحقوق الفردية والجماعية، ويشكل جدار حماية ضد تجاوزات الدولة أو الفئات الأقوى.
2. التوعية والتثقيف: نشر ثقافة المواطنة، الديمقراطية، القانون، وحقوق الإنسان بين المواطنين.
3. الرقابة والمساءلة: مراقبة أداء الدولة ومؤسساتها، والضغط لتحقيق الشفافية والمساءلة.
4. المساهمة في التنمية: المشاركة في البرامج الاجتماعية والاقتصادية التي تعزز رفاهية المواطنين.
5. الاستقلال عن السلطة: لا يسعى المجتمع المدني عادة لتولي الحكم، بل يبقى قوة ضاغطة وفاعلة دون امتلاك سلطة تنفيذية.
> هذه الخصائص تفسر لماذا يميز بعض فقهاء القانون الدستوري المجتمع المدني عن الأحزاب السياسية، فالاحزاب تسعى للسلطة، بينما المجتمع المدني يركز على الرقابة والمساءلة والتوعية.
المجتمع المدني في موريتانيا: بين الواقع والطموح
على أرض الواقع الموريتاني، تواجه المنظمات التي تُصنف ضمن المجتمع المدني تحديات عميقة تجعلها بعيدة عن النموذج الأوروبي الكلاسيكي:
قيادة محدودة الثقافة: كثير من هذه المنظمات يقودها أشخاص يفتقرون إلى الخبرة والتوجه الاستراتيجي، أو شبه أميين.
توظيف رسمي: هناك منظمات يقودها أشخاص معينون من طرف السلطة أو مرتبطون بها، ما يحولها إلى أدوات لخدمة أجندة رسمية أكثر من كونها فضاء مستقلًا للمواطنين.
قلة المثقفين النشطين: عدد محدود من المثقفين يشارك في توجيه المجتمع المدني، مما يقلل من فعالية هذه المنظمات وقدرتها على التأثير في السياسات العامة.
في ظل نظام شبه شمولي، ووعي شعبي محدود، وإمكانات مالية وبشرية ضعيفة، يظل المجتمع المدني الموريتاني أمام تساؤل جوهري: هل هو فعلاً مجتمع مدني مستقل، أم مجرد أداة تمويهية تُخفي ضعف التأثير الحقيقي؟
الخطاب الرئاسي: فرصة للمجتمع المدني
في هذا السياق، يبدو أن خطاب الرئيس الأخير في الحوض الشرقي يمكن أن يتحول إلى أداة توعية قوية إذا أحسن المجتمع المدني استغلاله. الخطاب يمكن أن يكون وسيلة لنشر مفاهيم العدالة والمساواة، وتعزيز وعي المواطنين بحقوقهم.
لكن الخطورة تكمن في أن يُفرغ الخطاب من محتواه، أو يُعاد تفسيره من قبل الحزب الحاكم وفلول الدولة العميقة، بما يخدم مصالح ضيقة ويؤجل تحقيق الإصلاحات الموعودة.
توصية للمجتمع المدني الموريتاني
في ضوء هذا الواقع، على المجتمع المدني أن يتبنى ثلاث ركائز رئيسية:
1. استثمار الخطاب الرئاسي في التوعية: تحويل كلمات الرئيس إلى برامج ومبادرات تعليمية وتثقيفية موجهة للمواطنين.
2. حماية استقلاليته: التصدي لأي محاولات لتوظيفه سياسياً بما يخدم السلطة أو يشوه دوره الرقابي.
3. التركيز على الفعل الملموس: تعزيز قدرته على التأثير الاجتماعي والسياسي عبر مشاريع وبرامج تنموية حقيقية، لا مجرد بيانات وتصريحات شكلية.
المجتمع المدني الحقيقي هو الذي يحول الكلمات والخطابات إلى أفعال ملموسة، ويجعل من خطاب الرئيس فرصة لتعزيز العدالة الاجتماعية، لا مجرد وسيلة لتجميل صورة النظام أو لتأجيل الإصلاحات الضرورية.
