أخبار اليوم. ليس الاستبداد في موريتانيا صاخبًا ولا معلنًا، لكنه حاضر بثقل، يمارس سلطته بطرق غير مباشرة، ويتسلل إلى مفاصل الحياة العامة كما تتسلل الرطوبة إلى الجدران… لا تُرى بسهولة، لكن أثرها واضح على البقاء والهواء.
نحن أمام نموذج جديد من الحكم؛ ليس ديكتاتورية صلبة، ولا ديمقراطية ناضجة، بل حالة وسطى تُدار فيها الدولة بمنطق الزبونية والولاء قبل الكفاءة، ويُمنح فيها الحق باعتباره معروفًا، لا باعتباره ضمانة دستورية للمواطن.
البرلمان… بوابة الاستبداد المقنّع
البرلمان في الواقع ليس ممثلًا حقيقيًا لإرادة الناخبين، بل مفرزة سياسية من صلب النظام نفسه؛ إذ وصلت الأغلبية عبر الترشيح المسبق من دوائر القرار، وليس عبر تنافس حرّ أو برامج واضحة. وهكذا صار البرلمان – الذي يفترض أن يكون سلطة رقابية – جزءًا من منظومة النفوذ، يدافع عن بقاء الحكومة أكثر من دفاعه عن المواطن.
ولأن التمثيل السياسي يقوم على الزبونية، يصبح السؤال مشروعًا:
> كيف يحاسب من جاء إلى المقعد النيابي بفضل النظام… النظام الذي جاء به؟
هنا تتعطل الرقابة، ويتحول البرلمان من عين الشعب إلى ذراع للسلطة.
المجتمع المدني… من خطاب الحقوق إلى خطاب الممول
إذا كان البرلمان قد دخل في تحالف غير معلن مع السلطة، فإن المجتمع المدني – في أغلبه – لم يخرج من دائرة التوجيه الخارجي. معظم منظماته وُجدت لا استجابةً لحاجة اجتماعية، بل لإملاءات ممول دولي. تُكتب المشاريع لحظة الإعلان عن تمويل جديد، لا عندما تظهر مشكلة واقعية تستحق المعالجة.
ولأن الوعي ضعيف، يتحول المجتمع المدني إلى قطاع خدماتي تابع للتمويل، لا قوة اقتراح ومراقبة. حتى المنظمتان أو الثلاث اللتان تحاولان بناء خطاب ناضج، انجرفت – عن قصد أو عن ضعف – نحو الدفاع عن إثنيات أو هويات فرعية بدل الدفاع عن المواطن في عموميته وحقّه في دولة عادلة.
الفساد… ليس انحرافًا بل “آلية حكم”
هنا يظهر وجه المسألة: الفساد في موريتانيا ليس حالة معزولة، بل اقتصاد سياسي يضمن استمرار الاستبداد. الوظائف تمنح لاختيار الولاء، والمشاريع التنموية تُحوَّل إلى بطاقات تعريف انتخابية، والصفقات تُوزّع كما يُوزَّع النفوذ… وعندما يدخل شخص إلى هذه الدائرة، يصبح جزءًا من شبكة الصمت.
الفساد بهذا المعنى ليس مرضًا يمكن علاجه بسهولة، بل هو محرّك خفي لنظام كامل.
لماذا يصعب المواجهة؟
لأن الاستبداد هنا لا يأتي بوجه سلطوي مباشر… بل يأتيك في صورة فرصة عمل، أو تسهيل معاملة، أو وعود بمشروع “سيأتي قريبًا”. وهكذا تُستبدَل المواطنة بـ”المنَّة”، ويُستبدل الحق بـ”الخدمة”، ويتحوّل المسؤول إلى مانح صكوك العبور، لا موظف عمومي.
لكن المواجهة ممكنة… شرط أن نغيّر زاوية النظر.
من أين يبدأ الطريق؟
ليس المطلوب مواجهة النظام، بل مواجهة الذهنية التي تمنح النظام قوته. والمعركة هنا فكرية قبل أن تكون سياسية:
١. كسر لغة المعروف وتأسيس لغة الحق
كلما قلنا: “قدّم لنا فلان خدمة”، ارتفع سقف الاستبداد…
وكلما قلنا: “هذا حقنا”، انخفض منسوبه المباشر.
٢. إعادة تعريف المواطن
ليس الشخص الذي ينتظر نصيبه من الكعكة، بل الشخص الذي يسأل:
> من الذي خبزها؟ ولمن وُزّعت؟ وبأي حق؟
٣. بناء رقابة مجتمعية لا دعائية
منصات مفتوحة تُسائل الميزانيات والمشاريع والتعيينات، تبدأ من البلديات، ولا تنتظر إذنًا من أحد.
٤. الخروج من رد الفعل إلى الفعل
لا يكفي أن نحتج… يجب أن نقترح، ونبني نماذج مصغرة لدولة الممكن:
بلدية شفافة
مدرسة بلا رشوة
مشروع واحد يُنفَّذ كما أُعلن
حينها ستتغير المعادلة:
> لا نسقط الاستبداد… بل نجعله غير صالح للحياة.
الخاتمة
لسنا أمام خصم في قصر الرئاسة، بل أمام ذهنية مستقرة فينا جميعًا.
الاستبداد ليس شخصًا، بل نظام تفكير.
والفساد ليس صدفة، بل آلية حكم.
وحين يستعيد المواطن لغته الأصلية – لغة السؤال والحق والمراقبة –
حينها فقط… سيبدأ العقل السياسي في موريتانيا بالخروج من منطقة الضباب…
ويتجه نحو دولة تُبنى لا على الولاء… بل على المواطنة.
والمعركة هنا لن تُربَح بالضجيج… بل بالوعي.
هذا هو السلاح الوحيد الذي لا يستطيع الاستبداد أن يصادره.
حمادي سيدي محمد آباتي
