أخباراليوم. أثار المقال الذي نشره نجيب الأضادي حول ما وصفه بـ«مخطط جزائري لاختراق موريتانيا وزرع كيان انفصالي داخلها» موجة من التساؤلات، ليس بسبب خطورته، بل بسبب الهشاشة البنيوية التي يقوم عليها، واعتماده على سردية لا يمكن تصديقها حتى من طرف قارئ مبتدئ في الشأن الجيوسياسي.
المقال لا يملك قيمة تحليلية، ولا يقدم دليلاً واحداً على ادعاءاته، بل هو محاولة مكشوفة لإعادة خلط الأوراق وجرّ موريتانيا إلى اصطفافات لا أساس لها في التاريخ أو الواقع.
في هذا المقال الموسّع، نقوم بتفنيد هذه الرواية، اعتماداً على الوقائع التاريخية الموثّقة، وعلى قراءة سياسية مسؤولة تستحضر مصلحة موريتانيا واستقرار المنطقة، بعيداً عن حملات صناعة الأعداء الوهميين.
أولاً: تجاهل للتاريخ من أجل صناعة «عدوّ جديد»
يتعامل المقال مع القارئ وكأنه بلا ذاكرة، وكأن تاريخ المنطقة يبدأ من السطر الأول في مقال صاحبه.
فالجزائر — بخلاف ما يروج له الكاتب — لم تكن يوماً طرفاً يسعى إلى إضعاف موريتانيا أو المساس بوحدتها الترابية.
على العكس تماماً، يكشف السجل السياسي للدولتين عن حقائق لا يمكن القفز عليها:
1. الجزائر كانت من أوائل الدول التي اعترفت باستقلال موريتانيا سنة 1962 ودافعت عنها في أروقة منظمة الوحدة الإفريقية أمام الرفض المغربي المعروف آنذاك.
2. هواري بومدين رفض مقترحات مغربية تتعلق بترسيم الحدود على حساب موريتانيا، وهو موقف بقي ثابتاً في السياسة الجزائرية.
3. منذ السبعينيات وحتى اليوم، ظلت الجزائر تنظر إلى استقرار موريتانيا بوصفه امتداداً مباشراً لاستقرار الساحل وحزامها الأمني الجنوبي.
هذه وقائع منشورة في محاضر القمم الإفريقية، وفي أرشيف الخارجية الجزائرية والفرنسية، وفي شهادات رؤساء موريتانيا أنفسهم.
فكيف يمكن لكاتب أن يقلب نصف قرن من التاريخ لصالح رواية بلا مصدر، وبلا وثيقة، وبلا حتى إحالة ثانوية؟
ثانياً: من المستفيد من تجاهل المغرب وفرنسا؟
المقال لا يكتفي بتلفيق اتهام موجه للجزائر، بل يتجاهل — عن عمد — تاريخاً ثقيلاً من الضغوط والمطامع التي واجهتها موريتانيا من أطراف أخرى يعرفها الجميع.
وبالعودة إلى السجلات الموثوقة، نجد أن خطريْن أساسييْن طبعا مرحلة تأسيس الدولة الموريتانية:
1. الموقف المغربي في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي
المغرب تأخر في الاعتراف بموريتانيا حتى سنة 1969.
روّج رسمياً لفكرة أن «موريتانيا جزء من المغرب»، وهي موضوعات منشورة في وثائق منظمة الوحدة الإفريقية.
سعى في فترات مختلفة إلى التأثير على بعض الزعامات القبلية في أزواد ومنطقة كولمب التروس للتأثير على العمق الموريتاني.
هذه حقائق ثابتة، لا يمكن إسقاطها من الذاكرة لأن كاتباً يريد اليوم إعادة رسم خريطة الخصوم.
2. الدور الفرنسي وإعادة ترتيب السكان والحدود
فرنسا الاستعمارية مارست ما سماه المؤرخون هندسة سكانية وسياسية في المنطقة، من خلال:
نقل جماعات إثنية وتغيير التوازنات الاجتماعية.
إعادة ترسيم الحدود بشكل مخالف للواقع التاريخي.
ترك إرثٍ من التوترات العابرة للحدود ما زالت المنطقة تدفع ثمنه.
وهي سياسة موثقة في الأرشيف الفرنسي ودراسات عدد من الباحثين المختصين في تاريخ الساحل.
فلماذا يتجاهل الكاتب كل هذا التاريخ الثقيل؟
ولماذا تُبرأ الأطراف التي أثرت فعلاً على موريتانيا، بينما يُصنَع من الجزائر «تهديد خفي» لم يثبت وجوده يوماً؟
الإجابة بسيطة: لأن المقال لا يبحث عن الحقيقة، بل يبحث عن إعادة ترتيب الخصوم وفق هوى سياسي لا علاقة له بواقع المنطقة.
ثالثاً: البناء الهشّ لرواية «انقلاب الظل»
من منظور مهني بحت، المقال يعاني من أزمات واضحة:
1. غياب المصدر: لا رقم تقرير، لا تاريخ، لا وظيفة، لا قناة تسريب… فقط عبارة «معطيات مسرّبة».
2. غياب المنطق السياسي: لا توجد أي مصلحة للجزائر — لا أمنية ولا اقتصادية — في خلق بؤرة انفصالية على حدود دولة تتعامل معها كشريك استراتيجي في مكافحة الإرهاب.
3. غياب فهم الواقع الموريتاني: موريتانيا اليوم ليست دولة مفتوحة للاختراق السياسي كما يتخيّل المقال، بل دولة ذات مؤسسات أمنية وتجربة رائدة في الساحل.
الرواية التي يقدمها الكاتب ليست مجرد خطأ مهني، بل تبسيط فجّ لواقع معقّد واستخفاف بوعي الشعب الموريتاني وبذاكرة المنطقة، في محاولة لدفعها إلى صدامات وهمية لا يربح منها إلا دعاة الفوضى.
رابعاً: موريتانيا ليست ساحة لسيناريوهات الخيال السياسي
موريتانيا، رغم تحدياتها الاقتصادية والاجتماعية، ليست دولة رخوة ولا مشروعاً لدولة «تحت الاختراق» كما يدّعي المقال.
تجربتها في محاربة الإرهاب، وفي تحييد نفسها عن محاور المنطقة، وفي ضبط حدودها، جعلتها إحدى أكثر دول الساحل استقراراً.
فمن غير المنطقي — ولا المقبول — تقديم موريتانيا كهدف سهل لقوى إقليمية تريد تقسيمها.
هذه قراءة غير محترمة لوعي الموريتانيين، وتبخيس لتاريخ الدولة، وتهويل لا يخدم إلا صانعي الأزمات الافتراضية.
خامساً: كلمة أخيرة… احترام القارئ يبدأ باحترام التاريخ
الكاتب لا يهاجم الجزائر فقط، بل يهاجم ذاكرة المنطقة بأكملها.
فحين تُقلب الحقائق، ويُعاد رسم الماضي لخدمة سردية جديدة، يصبح المقال مجرد أداة تضليل لا تحليل.
الجزائر ليست خصماً تاريخياً لموريتانيا، والمغرب ليس بريئاً كما يحاول المقال الإيحاء، وفرنسا ليست طرفاً محايداً كما يلوّح صمت النص.
ومن يحاول تقديم صورة معاكسة، فهو إما يجهل التاريخ، أو يتلاعب به.
موريتانيا تستحق تحليلاً أعمق من هذا المستوى، وأبعد عن الإثارة والافتعال، وأقرب إلى الحقيقة التي لا تحتاج إلى «تسريبات» مزعومة ولا إلى خصوم مختلقين.
