تعدد الإثنيات في موريتانيا: من نعمة التنوع إلى وهم التنافر > “حين يتحول التنوع من مصدر ثراء إلى ذريعة للانقسام، فثمة من يعبث بعقل الأمة.”

author
0 minutes, 5 seconds Read

 

التنوع لا يصنع التنافر

لم يعرف التاريخ أمةً نقية العرق أو موحدة الأصل، فكل الشعوب مزيج من مكوناتٍ ثقافيةٍ وإثنيةٍ تفاعلت عبر الزمن لتنتج هويةً جامعة.
وموريتانيا ليست استثناءً؛ فهي بطبيعتها بلد التنوع والتداخل، جمعت العرب والبولار والسوننكي والولف في نسيج واحد، دون أن يكون لذلك أثر سلبي على الانسجام الاجتماعي أو وحدة الانتماء.
بل على العكس، ظلّ التنوع فيها دليلاً على الحيوية والتكامل، حتى جاء الاستعمار الفرنسي فحوّل الفوارق إلى أدواتٍ للسيطرة والتمييز.

> “الاستعمار وحده من جعل اللغة أداة تفريق، بعدما كانت وسيلة فهمٍ ووحدة.”

 

 

قبل الاستعمار: وحدة الدين واللغة

قبل مقدم المستعمر، كان الإسلام هو الرابط الأعمق بين المكونات الموريتانية.
وكان التعليم المحظري النمط الوحيد السائد في البلاد، ولغته الوحيدة العربية. فهي لغة القضاء والفتوى، كما كانت لغة العبادة، والعلم، والتأليف.
ومن اللافت أن علماءً من أصول إفريقية برزوا في ميادين الشريعة والشعر، مما يعكس عمق الاندماج الاجتماعي والثقافي.
بل إن الإمارات العربية والإفريقية كانت تجمعها تحالفات دفاعية واقتصادية، يتقاسم فيها الجميع الحقوق والواجبات دون تمييز.

> “ما وحّد الناس آنذاك لم يكن الأصل أو اللون، بل العلم والدين والوفاء للحلف.”

 

 

الاستعمار وصناعة الانقسام

حين دخل الفرنسيون البلاد، جاؤوا بجنودٍ ومجندين من السنغال ومالي وغينيا. ومع مرور الوقت، حدث تداخل بين الوافدين وبعض أطراف المجتمع الزنجي، خاصة من البولار والسوننكي.
لكن المستعمر لم يكن يسعى للدمج، بل لخلق تمايزات داخلية تضمن له السيطرة.
فأنشأ مدارس استعمارية كان عامة الشعب يقاطعها، باستثناء أبناء بعض الحواشي والوجهاء الذين التحقوا بها بدافع الطموح الاجتماعي.
وهكذا ظهرت طبقة جديدة من المترجمين بين الإدارة الفرنسية والمجتمع، وهي التي تحكمت في نقل المعلومات والأوامر، فكانت أول بوابة لدخول الرشوة والبيروقراطية إلى الجهاز الإداري المحلي.

> “المترجمون كانوا الطبقة الأولى من أرستقراطية ما بعد الاستعمار.”

 

 

من الترجمة إلى احتكار الدولة

بعد الاستقلال، حاول الرئيس المختار ولد داداه أن يرسخ التعليم العمومي ويوحد البلاد على أساس المواطنة.
لكن تلك الطبقة التي ورثت نفوذها من الإدارة الاستعمارية قاومت أي إصلاح يمكن أن يهدد امتيازاتها.
وحين طُرحت فكرة تعريب التعليم ولو جزئيًا، واجهتها حملة شرسة بلغت ذروتها في أحداث عام 1966، حين بعثت مجموعة من تسعة عشر شخصًا رسالة إلى الرئيس تحذر من تعريب بعض ساعات الدروس.
تلك اللحظة كانت بداية استغلال مسألة اللغة كوقودٍ سياسي، لتتحول من شأنٍ ثقافي إلى ورقةٍ لإثارة النعرات.

> “اللغة عند البعض ليست وسيلة معرفة، بل وسيلة سلطة.”

 

 

واقع اليوم: مطالب تفقد معناها

بعد عقود من الاستقلال، لا تزال فئة محدودة ترفع شعار الدفاع عن “اللغات الوطنية” وتعارض التعريب، وكأن اللغة العربية مشروع إقصاء.
لكن الواقع الإحصائي يكشف أن الغالبية من المكونات الزنجية لا تتحدث الفرنسية إلا في حدود ضيقة، وأن نسبة التمدرس ما زالت متواضعة داخلها.
أما العربية فهي لغة الأغلبية الساحقة، ولغة الدين، والشعائر، والقانون.
ومع ذلك، يضمن الدستور الموريتاني الحقوق الثقافية واللغوية للأقليات دون تمييز، ما يجعل المطالبة بالمساواة اللغوية بين العربية والفرنسية مطلبًا غير واقعي ولا يخدم الوحدة الوطنية.

> “ليست المشكلة في اللغة، بل في من يريد أن يجعلها جدار فصل لا جسر تواصل.”

 

 

بين الوعي والانقسام المصطنع

إن من الخطر أن يتحول التنوع الإثني إلى ذريعة لتقويض الانسجام الوطني.
فالوحدة لا تتحقق بطمس الهويات، وإنما بعدالةٍ اجتماعيةٍ تضمن الحقوق، وبنظامٍ تعليمي موحدٍ يعزز الانتماء للدولة قبل الانتماء للمجموعة.
الفرنسية ليست هوية، كما أن العروبة ليست عرقًا، بل إطارٌ حضاري واسعٌ جمع الموريتانيين في العلم والدين والثقافة.
والرهان الحقيقي اليوم هو في بناء وعيٍ وطني يتجاوز العقد التاريخية، ويجعل من اللغة العربية رمزًا للتلاقي، لا للتفاضل.

> “من يجعل من اللغة الفرنسية حصنًا للهوية، إنما يكرر خطاب المستعمر بثوب جديد.”

 

 

خاتمة: التنوع ثروة لا خطر

لقد كان تعدد الإثنيات في موريتانيا على الدوام مصدر غنى حضاري وروحي، ولم يتحول إلى عبءٍ إلا عندما تسللت إليه الحسابات السياسية والمصالح الضيقة.
فما دام العدل قائمًا، والتعليم متاحًا، والانتماء للوطن هو المعيار الأعلى، فسيبقى التنوع رصيدًا وطنيًا لا مصدر انقسام.
أما من يزرع الشك في الهوية المشتركة، ويغذي الحساسية اللغوية والجهوية، فهو يرتكب في حق الوطن جريمة فكرية وسياسية، لا تقل خطورة عن الفساد المالي والإداري.

“الوحدة ليست شعارًا، بل سلوكٌ يوميّ يبدأ من احترام التنوع، وينتهي بخدمة الوطن أولًا.”

حمادي. سيدى محمد. آباتي.

Similar Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *