حدثتني صديقة لي منذ سنوات بأنها حضرت جلسة نقاش لرواية كاتبة ما، وأنه من بين الأسئلة التي طُرحت عليها لماذا لغتها محتشمة. ربما لم تُستخدم عبارة الاحتشام نفسها في صيغة السؤال لكنها وردت في الإجابة.

ردت الكاتبة بأن الالتزام لا يُمارس في الحياة اليومية فقط بل بين السطور أيضًا، وأنها كامرأة مُلزَمة أكثر من الكاتب الرجل باستحضاره وتأكيده. أي أن هنالك كتابة “تصلح” للرجل وأخرى للمرأة، وعلى المرأة أن تكون مهذبة في نقل المشاعر، متحاشية أكثر للأفكار الصدامية ، ومثلما هي حنونة في بيتها عليها أن تكون حنونة مع القارئ.

تحولت الجلسة فيما يبدو من نقاش حول الرواية وأحداثها إلى جلسة حول تعزيز الفروقات وتكريس النظرة التقليدية التي تفصل بين أدوار الرجل والمرأة وتحد من إمكان تلاقيهما في المجال العام أو في تناول القضايا وكتابتها.

رحت أقول لصديقتي يومها إن خطأ هذه الكاتبة الجسيم لم يتمثل في وجهة نظرها هذه، التي عند رجوعنا إلى تاريخ الأدب والكتابة سنجد أن نصوصًا كثيرة وكتبًا وروايات كتبتها امرأة بوعي وتحد عقلي وفكري لكل ما هو مفروض، ولم تكتبها بتمثل فقط “أنثوي” إن جاز التعبير.

فالكتابة هي ممارسة للوعي وأسلوب في إظهار الذات والتفاعل مع الوجود، لا في البقاء داخل القوالب المجتمعية والنمطية التي تحدد للمرأة والرجل كيف يكونان، حتى وهما يطلقان العنان لخيالهما وتصوراتهما.

الخطأ الجسيم في رأيي أنها عرضت فكرتها كمسلمة غير قابلة للنقاش، وقدمت تعريفًا آخر للكتابة وضوابطها، متناسية أن جمهورها المتلقي بينه ربما كاتبة مبتدئة لا تزال تمسك القلم لتفضفض عن مشكلة في المنزل أو عن موظف في الإدارة غير مهذب أو امتحان صعب أو رواية لامستها. ثم تستحضر تلك الكاتبة كلماتها فتتذكر أنها “امرأة”، ويُفترض بها أن تعيش صراع اختيار الألفاظ واللغة أكثر مما تعيش حاجتها لنقل إحساسها وتلبّسها باللحظة.

أن تبرهن على أخلاقها قبل أن تعبر عن ذاتها فتتحوّل الكتابة في ذهنها وفي أذهاننا إلى درس في الأخلاق لا تعبير عن الذات ويغدو الالتزام المزعوم هذا نقلًا للقيود الاجتماعية إلى قيود لغوية، وبين قيد وآخر تضيع الكاتبة، وتضيع قدرتها على التعبير واكتشاف ما يمكن أن يُكتب عنه ويُقال خلف الأبواب المغلقة.

ثم رحت أفكر ماذا لو أن كل الكاتبات العالميات والعربيات أيضًا والشاعرات في تراثنا اللواتي قرأت لهن في سن مبكرة كتبن بطريقتها وتعريفها؟ هل كان سيبقى من كتبهن سوى صدى ضعيف لا يصل؟ ماذا لو أنهن فرضن على أقلامهن حياء زائفًا وحجابًا على أفكارهن؟ كيف كن سيغامرن بخسارة قدرتهن على تعريف العالم وما يشعرن به من منظارهن الخاص؟

أي احتشام هذا الذي يُفرض على المعنى والكلمة؟

في النهاية الكتابة من وجهة نظري هي محاولة لانعكاس وجوهنا الحقيقية ما نراه ونفكر به، الأشياء التي لا يمكن أن نقولها في نفس اللحظة فتختبئ في الذاكرة لتعلن عن نفسها بعد ذلك بين حروفنا. إنها ممارسة للصدق الذي نخاف منه في الواقع لكثرة المجاملات والقيود الاجتماعية ولعدم رغبتنا الدائمة في النقاش والتبرير. ثم إن اللغة ليست جسدًا أنثويًا نطلب منه الاحتشام كي لا يفتننا