أخبار اليوم. في شساعة الصحراء الغربية، التي نُسميها اليوم موريتانيا، لم يكن هناك، قبل الغزو، لا دولة مركزية ولا سلطة سياسية موحِّدة. لم تكن هناك أي بنية تُوحِّد القبائل الرحّل أو الجماعات المستقرة أو الزعامات المحلية التي كانت تتعايش فوق هذا الامتداد الجغرافي الشاسع، عند ملتقى المغرب العربي بإفريقيا جنوب الصحراء. كانت فكرة الحدود بحد ذاتها مسألة نسبية، لا تُرسم عبر خطوط ثابتة، بل يرسمُها الامتداد المتغيّر لنفوذ زعيم أو قبيلة أو مجموعة إثنية.
لقد تشكّل النسيج الاجتماعي الموريتاني تاريخيًا على أساس الولاءات النَسَبية والقبلية والدينية. وكان النفوذ يُستمد من النسب، ومن الانتماء إلى سلالة مرموقة أو طبقة اجتماعية معترف بها، سواء تعلق الأمر بقبائل كبرى أو جماعات مهيمنة. هذه التراتبيات الاجتماعية، المتجذّرة بعمق في كل مكوناتنا، لا تزال حتى اليوم تؤثر في حياتنا اليومية، في ظل ضعف الحضور الفعلي للمدرسة الجمهورية، والخدمات العمومية، ومبادئ المساواة الرسمية في الحقوق. ولكن، لا يمكن لأي أمة أن تُبنى بشكل دائم ما لم تترسخ فيها فكرة المواطنة القائمة على المساواة في المكانة، بعيدًا عن التصنيفات العبثية والظالمة التي ورثناها عن نظام الطبقات والتقاليد الهرمية القديمة.
وهكذا، ورغم الاستقلال الشكلي الذي تحقق سنة 1960، فقد نشأت الدولة على أرضية مجزّأة، دون أن تُطلق عملية حقيقية لتوحيد الأمة. فالدولة التي أعقبت الاستعمار، وعلى الرغم من الجهود الكبيرة والإنجازات الجريئة في زمانها — مثل تأميم “ميفرما”، ومراجعة الاتفاقيات مع فرنسا، وخلق عملتنا الوطنية — لم تكن سوى امتداد بيروقراطي للجهاز الاستعماري، أعيد تشكيله ليتماشى مع متطلبات السيادة، دون أن يشهد إصلاحًا جذريًا في العلاقة المدنية بين المواطنين. لم تنبع هذه الدولة من عقد اجتماعي محلي، نابع من وعي السكان أنفسهم، بل من انتقال شكلي فرضته ضرورة الاستقلال، وهو ما حال دون بروز دينامية شعبية حقيقية تُفضي إلى ولادة أمة متماسكة.
صحيح أن الإسلام كان ولا يزال أرضية روحية مشتركة، لكنه لم يتحول، في غياب توحيد سياسي مستدام في تاريخ المنطقة الإسلامية، إلى مؤسسة جامعة، ولم يخلق وعيًا وطنيًا موحّدًا. لقد أسّس الإسلام لقيم مشتركة، لكنه لم يفرز بنية سياسية موحدة.
هذا الماضي، ورغم أنه ليس جامدًا، لا يزال يثقل حاضرنا. فالتفاوتات التي ورثناها عن البنى التقليدية، والانقسامات الهوياتية الكامنة، وغياب سردية وطنية موحدة، والاختلالات المتكررة في أداء الدولة، كلها تمثل عوائق أمام تحقيق الانسجام الوطني. الدولة الموريتانية لا تزال تجد صعوبة في أن تفرض نفسها كضامن محايد للخير العام، موزعًا بعدالة بين جميع مكوناتها.
لقد أصبح من الضروري الآن أن نفتتح حوارًا وطنيًا عميقًا، صادقًا وشاملًا، حول أسس عيشنا المشترك. ما هي البنية المؤسسية الواجب ابتكارها لبناء دولة موحدة وفعالة ومتلائمة مع طموحات مجتمع يتجه نحو التقدم والتنمية؟ كيف نعيد تأسيس مؤسساتنا على قواعد ديمقراطية حقيقية وتمثيلية صادقة؟ ما هي الآليات الكفيلة بضمان المساواة الحقيقية في الحقوق والفرص والواجبات؟ هذه الأسئلة ليست طوباوية، بل تمس جوهر بقاء كياننا السياسي المشترك.
وإذا لم نواجه هذه الأسئلة بشجاعة، فإن موريتانيا مهددة بأن تبقى عالقة في حالة “بين بين” — لا هي موحدة تمامًا، ولا هي متفرقة كليًا — مجتمع معلّق، مشدود بين ماضٍ يقاوم وأفقٍ يتردد في التشكل. وكلنا نعلم أن المجتمعات المتعددة الإثنيات عندما تدخل في هذه المنطقة الرمادية، فإنها تصبح عرضة للغموض والالتباس، بل وللمخاطر الدائمة.
لقد آن الأوان لفتح دورة جديدة. ليس بإنكار الإرث، بل بتجاوزه نحو أفق مشترك. وليس بإعادة إنتاج التراتبيات القديمة في أشكال عصرية، بل ببناء دولة عادلة، حاملة لمشروع جماعي متفق عليه.
لقد حان الوقت لاختراع الأمة.
وإذا أردنا ذلك حقًا، فإن الأسس موجودة بالفعل. إننا نتقاسم أرضية مشتركة، قد تُنسى أحيانًا، لكنها لا تزال حيّة. كلنا مسلمون. نحتفل بنفس الأعياد، نصلي بنفس اللغة، وننهل من نفس القيم الحياتية. ثقافاتنا، رغم تنوعها، تتجاوب فيما بينها. موسيقانا، وبُوْبْنا، وحكاياتنا الشعبية، وأمثالنا، وطرق عيشنا في الصحراء أو في الوادي، تنسج شبكة من التجارب المشتركة. ذاكرتنا، رغم ما فيها من أوجاع أو أمجاد، تروي نفس تقاطعات الشعوب، ونفس المحن التاريخية، ونفس التطلعات إلى الكرامة.
هذه هي ثروتنا الحقيقية، شريطة أن نعي بها، ونتملكها، ونجعلها أساسًا لتخيل جماعي جديد. لكن ذلك لن يتم دون نظرة صادقة لما نحن عليه. دون أحكام مسبقة. دون مجاملات. ودون ريبة. فإذا كانت لدينا الجرأة لفتح أعيننا على جراحنا، وتسميتها، وفهمها، فإننا سنتمكن من شفائها. وعندها، هذا البلد الذي يظنه البعض محكومًا بالفشل، سيثبت العكس، ويبرهن على أنه يحمل في داخله وعودًا، وقادر على تجاوز عوائقه وكتابة تاريخ آخر.
نعم، إذا قبلنا أن نتقدم معًا، فسندحض كل من يزعم أن لا شيء سيتغير، وأن كل شيء محسوم سلفًا. الأمر يتطلب فقط أن يُدرك الحُكّام والنخب السياسية أن لا مشروع جماعي يمكن أن يُبنى من دون تنازلات متبادلة، ومن دون جهد صادق لخلق المشترك من اختلافاتنا. النهوض لن يأتي من سلطة مفروضة، ولا من معارضة مشتتة، بل من إرادة جماعية لتوحيد الذاكرات، وتناغم الطموحات، وإعادة تأسيس مؤسساتنا على قاعدة عادلة. عندها فقط، ستتمكن موريتانيا من التصالح مع ذاتها، واختيار مستقبلها — مستقبل آمن ومبشّر