أخبار اليوم. قرأت ذات مرة- لا أذكر أين بالتحديد- أن التفكير هو أشق عملية يمكن أن يقوم بها الإنسان، والمقصود بالتفكير هنا هو التفكير الذي يُنتِج فكرة جديدة، أو يُُوجِد حلًّا لمشكلة، أو يُلقي بحجر في الماء الراكد، أو يغير مذاقات الأشياء أوألوانها أو روائحها.
ولعل هذه هي فلسفة الدراسات العليا في الجامعات ومراكز البحث، أنها تنطلق غالبًا من مشكلة، يسمونها (مشكلة البحث)؛ حتى لا تكون الدراسات والأبحاث بمعزل عن الواقع والحياة، أو تكون بغير فائدة.
إن المتأمل إلى تراثنا الإسلامي يعجب مما يحتويه من قدرات فكرية عميقة، وتجلِّيات عقلية هائلة ورشيدة، فلم تكن نشأة كثير من العلوم العربية والإسلامية إلا صدًى لهذه المَلَكات الفكرية والعقلية؛ إذ لم يحصر المسلمون الأوائل أنفسهم في دائرة فكرية ضيقة، تُجَمِّد عقولهم، أوتجعلها عقيمة لا تَبِيضُ ولا تُفرِّخ.
علِم السابقون أن لكل شيء أصولًا وفروعًا، وعلِموا كذلك أن للدين أصولًا وفروعًا، أما الأصول فدائرة ضيقة محدودة، وأما الفروع فدائرة رحبة وممتدة، فالتزَموا بالأصول، ووقفوا عند حدودها، وانطلقوا في الفروع بحثًا ودراسة ونقاشًا، فأبدعوا، وولَّدوا الأفكار، ووضعوا التصورات، واقترحوا الحلول، واجتهدوا، وظل باب الاجتهاد عندهم مفتوحًا، واستمر الإنتاج العقلي والفكري يتراكم ويتزاحم، ويتكامل ويتعاظم، فحدث الثراء، ووجد الناس حلولًا متنوعة ومتعددة، وفقًا للزمان والمكان والأحوال.
إن كثيرًا من الأزمات قد تنشأ وتطول؛ بسبب الجمود الفكري، وعدم الجرأة على كسر هذا الجمود؛ إما خوفًا من جمهور المُقَلِّدين، أو استصعابًا لاقتلاع الموروث الضارب بجذوره في أعماق العقول والقلوب، أو يأسًا من الأوضاع السائدة، أو توقُّعًا لمصيرٍ يشبه مصير تجاربَ سابقة.
الأفكار الجديدة والجريئة لها أعداءٌ كُثُر، وبخاصة في مَهْدِها.
فيا أصحاب العزائم، اتبعوا سبيل أسلافكم المفكرين .. تعلموا مهارات التفكير، ومارِسوا مهارات التفكير، وأطلقوا العنان للتفكير، واكسروا الجمود، وحطِّموا أغلال التقليد، وامتلكوا الجرأة على التغيير والتحسين والتطوير، واستعدوا لدفع ضريبة ذلك، فلعل أوضاعًا قائمة، بحاجة إلى تطوير، أو تعديل، ولا داعي للإكثار من قوائم الثوابت، وتوسيع دائرة الأصول، أو التشبث بكل قديم.
أعيدوا النظر والتأمل في الموروثات، وجدِّدوا ما بَلِيَ منها؛ فما التجديدُ على رأس كل مائة إلا بهذا النهج، وتلك الطريقة.
نسأل الله العون والتوفيق والسداد.
