أخباراليوم. أيام، رحل الفيلسوف الأميركي، البريطاني الأصل، ألسيدر ماكنتاير، عن عمر مديد، خصص أغلبه للتفكير الفلسفي المتجسد في الواقع العملي والأخلاقي للمجتمعات المعاصرة. في مرحلة طغت فيها أخلاقيات الواجب والضمير ذات الخلفية الكانطية، تميز ماكنتاير بالدعوة إلى العودة لمفهوم الفضيلة الأرسطي، الذي كان يُعتقَد أن الفلسفة الحديثة تجاوزته ولم يعد له اليوم معنى في ثقافة تطبعها الليبرالية الفردية والتعددية العقدية والفكرية.
ما يهم ماكنتاير في فلسفة أرسطو الأخلاقية ليس «الأتيقا» المنسجمة مع نظام الطبيعة والوجود، ولا حتى القانون الطبيعي الذي شكل جوهر اللاهوت المسيحي، رغم اعتناق الفيلسوف الراحل للكاثوليكية، وإنما فكرة انغراس القيم السلوكية والخيارات الأخلاقية في تقليد قائم يكرس معايير الفعل المعياري المثالي.
في كتابه الأساسي «ما بعد الفضيلة»، الصادر سنة 1981، ينتقد ماكنتاير بقوة الفلسفةَ الأخلاقية الحديثة التي تأسست على الضمير الفردي مقابل التقليد الجماعي، معتبراً أنها عاجزة عن توفير قاعدة معيارية ملزمة وفاعلة تضمن اندماج الإنسان في وسطه الاجتماعي، وهو يعني هنا الحاجة إلى تصور مشترك للخير الجماعي تقوم عليه منظومة الأوامر الأخلاقية، التي لا يمكن بالنسبة له أن تتأسس على العقلانية الصورية المجردة.
وفي هذا السياق، يرى ماكنتاير أن الليبرالية التقليدية انساقت إلى المقاربة الكانطية المبنية على أطروحة استقلالية الإنسان ورشده وإناطة القيم بالذاتية الفردية الحرة، فلم تستطع أن تبلور حلولاً عملية ناجعة لميل الإنسان الحديث إلى الأنانية والانغلاق والعزلة.
ومن المعلوم أن فلسفة كانط الأخلاقية، واجهت معضلةَ الفراغ المعياري للوعي العقلاني في الشأن الأخلاقي، ضمن إشكالية «الشر الجذري» التي تتمثل في كون الإرادة الحرة لا تختار بالضرورة الخير والعمل الصالح، فيظل التوجيه الأخلاقي خارجاً عن نطاق العقل الأخلاقي. ما يلاحظ ماكنتاير هو أن النموذج الكانطي للدين في حدود العقل يظل مثالياً وصورياً في بحثه عن حل مرض للمعضلة الأخلاقية، لكونه يتوهم القدرة على تعويض التقليد الديني الحي بنمط من الديانة الفلسفية المجردة التي ليس لها أتباع ومريدون.
ليس من همنا هنا الاسترسال في عرض أطروحة ماكنتاير، التي أثرت بقوة في قطاع واسع من المفكرين والسياسيين في أميركا الشمالية، وإنما حسبنا الإشارة إلى سياقها الراهن في إطار النقاش المتجدد حول المسألة الأخلاقية في المجتمعات المعاصرة، ومن المعروف
أن هذا الجدل تفجر في أميركا الشمالية مع أطروحة جون رولز الشهيرة حول العدالة التوزيعية، التي صدرت صيغتها الأولى عام 1971.
لقد كان غرض رولز البحث عن حلول عملية للمعضلات التي واجهتها الليبرالية الحديثة في مستوين أساسيين هما: الشرعية المعيارية الهشة بانفصام مبدأ العدل عن مبدأ الخير، والتناقضات الطبقية الاجتماعية المتولدة عن الحرية الاستحقاقية غير المقيدة. إلا أن رولز بحث عن هذه الحلول ضمن ثوابت الليبرالية نفسها، أي وفق ما سماه بنمط من الكانطية الإجرائية الجديدة التي ترفض العودة للتصورات الجوهرية للخير الجماعي. لقد انتقد بشدة ماكنتاير أطروحة رولز، معتبِراً أن قصورها الحقيقي يكمن في افتراض حالة من الأخلاقية العمومية منفصلة عن التقليد القيمي الاجتماعي الذي ينتمي إليه الأفراد ثقافياً وعقدياً، غير مدرك أن العقل المجرد المحكوم بمنطق الحقوق والنجاعة لا يمكن أن يكون بديلاً عن المعتقدات الجماعية التي هي مدار التقويمات السلوكية الفاعلة.
وبطبيعة الأمر، لا يدعو ماكنتاير لفرض قيم أخلاقية باسم الدين أو المعتقد في المجتمعات المعاصرة التي تتسم بالتنوع والتعددية وتحكمها معايير الحرية الفردية في جوانبها المختلفة، لكنه يوجه النظر، على غرار الفلاسفة المجموعاتيين، إلى العلاقة العضوية بين الاستقلالية الفردية وحقوق المجموعات الأخلاقية المندمجة التي ينتمي إليها الأفراد أنفسهم.
فالخطأ الكبير الذي يقع فيه الليبراليون، حسب ماكنتاير، هو النظر إلى الأفراد بصفتهم ذرات معزولة عن سياقها القيمي والاجتماعي، من خلال اختزال الإنسان في هويته القانونية الحقوقية التي هي أساس حريته واستقلاله عن المجموعة، والحال أن البشر لا يمكنهم الانفكاك عن التقليد الذي ينتمون إليه، ولو كانوا يعيدون إنتاج هذا التقليد من خلال المراجعة النقدية المستمرة التي لا تفضي إلى القطيعة الحاسمة معه.
لا شك في أن هذه الأفكار الجريئة، بدأت في السنوات الأخيرة تؤثر في الحقل السياسي والأيديولوجي في البلدان الغربية، بما يَبرز في تنامي التيار الهوياتي والحركات الإحيائية والأصولية في الشارع وفي الكتل الحزبية والانتخابية، ضمن الجدل المتجدد حول المسألة القيمية الأخلاقية في المجتمعات الليبرالية الحالية. *أكاديمي موريتاني