أخباراليوم. منشورك الذي أشرتِ إليَّ فيه، وقلتِ فيه إني دخلتُ في حالة من التوتر، أفقدتني السيطرة على الأعصاب، وأن سبب ذلك هو أنك تجرأتِ على مساءلة معالي وزير الداخلية.
حسناً، لا مشكلة لدي في أن أسايرك في قولك هذا، فلنفترض جدلا أن كل انتقادي لك وللنائب خالي جالو جاء فقط كردة فعل على تجرئك لمساءلة معالي وزير الداخلية، لنفترض ذلك، ولننطلق منه في هذا النقاش، ولكن المشكلة أنه ستبقى هناك حجج قوية تُصيب هذه الفرضية في مقتل، وعليك أن تحضري لها ردا متماسكا يحترم عقل المتلقي، إن فكرتِ في الرد على هذا المقال، ولا أظنك فاعلة، ومن تلك الحجج:
1 ـ أنتِ تعلمين جيدا أن هناك طائفة كبيرة من المهتمين بالشأن العام، تنتقد معالي وزير الداخلية بالعشي والإبكار، وأن هذه الطائفة انتقدتك هي أيضا في الأيام الأخيرة، وبأقسى مما انتقدتُك أنا به، فهل سبب انتقاد هؤلاء لك، أنهم هم أيضا فقدوا أعصابهم، ودخلوا في حالة من التوتر الشديد لما علموا بأنك ستسألين وزير الداخلية؟
2 ـ إن كل من يمتلك القدرة على تحليل الأمور وتقدير المواقف، سيصل حتما إلى خلاصة مفادها، أن وزير الداخلية لن يجد ـ على المستوى الشخصي ـ موقفا أحسن من هذا الموقف الذي ستضعينه فيه من خلال مساءلتك له حول ملف الهجرة غير النظامية.
فلتعلمي ـ يا نائبتنا الموقرة ـ أن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة بخصوص ملف الهجرة غير النظامية، تدعمها غالبية الشعب الموريتاني، ويمكنك أن تقومي بعملية بحث سريعة في منصات مواقع التواصل الاجتماعي، وعندها ستدركين أن الكثير من معارضي الحكومة يدعمونها في جهودها الرامية للحد من الهجرة غير النظامية، أما من كان يدعمها أصلا، فدعمه لها في الحد من الهجرة غير النظامية كان أقوى وأوضح، وإن كان هناك من ينتقد إجراءات الحكومة في تعاملها مع ملف الهجرة، فسينتقدها على أنها تأخرت كثيرا في اتخاذها لتلك الإجراءات، وأن تلك الإجراءات لم تصل حتى الآن إلى المستوى المطلوب من الصرامة التي يتوقعها الكثير من الموريتانيين.
هناك ـ يا نائبتنا الموقرة ـ طريقة واحدة وواحدة فقط، يمكنك من خلالها إحراج معالي وزير الداخلية عند سؤاله في ملف الهجرة، وهي أن تنتقديه على تأخر الحكومة في التعامل مع هذا الملف، أو تنتقديه على أن الإجراءات ما زالت دون الحد المأمول من الصرامة، أو تعبري له عن قلقك وخوفك من أن تتوقف الحكومة في منتصف الطريق، وأن لا تستمر في إجراءاتها الهادفة للتصدي للهجرة غير النظامية، بهذا النوع من الأسئلة يمكنك فعلا أن تحرجي معالي وزير الداخلية، ولكن المشكلة أنك لن تطرحي عليه هذا النوع من الأسئلة، بل العكس، فأنت ستطلبين منه إلغاء هذه الإجراءات التي ما زال الكثير من الموريتانيين يعتبرها دون المستوى المطلوب.
لن يجد معالي وزير الداخلية ـ يا نائبتنا الموقرة ـ أي حرج على المستوى الشخصي بسبب سؤالك هذا، بل على العكس من ذلك فسيجد نفسه في وضع مريح جدا يوم مساءلتك له، ولا أظن أن وزيرا موريتانيا وجد أو سيجد مساءلة أفضل من هذه.
3 ـ لو أن معالي وزير الداخلية استشارني، ولا أظنه سيفعلها، فهو لم يستشرني من قبل، حتى يستشيرني في هذه، أقول لو أنه استشارني لقلتُ له: يا معالي الوزير لقد أتاحت لكم النائب كادياتا فرصة لم تتح لوزير داخلية قبلكم، ولا أظنها ستتاح لوزير داخلية بعدكم، ولكم أن تشكروها على هذه الفرصة الثمينة التي أتاحت لكم.
بالفعل، لقد أعطت النائب كادياتا فرصة عظيمة لمعالي وزير الداخلية بإصرارها على سؤاله عن ملف الهجرة غير النظامية، فمثل هذا السؤال بالذات سيجعل الوزير يتحول من وزير يسائله نائب إلى وزير يسائل نائبا.
نعم يمكن لمعالي الوزير أن يحول الجلسة إلى جلسة لمساءلة النائب كادياتا، فيسألها عن الدوافع التي جعلتها تخرج عن الإجماع الوطني والإقليمي والدولي في استخدام ما عُهِدَ من المصطلحات لوصف ما جرى مؤخرا مع المهاجرين غير النظاميين في موريتانيا، فالجميع يصف ما جرى في بلادنا في الفترة الأخيرة بأنه عمليات ترحيل للمهاجرين غير النظامين، فلماذا خرجت هي وحدها عن هذا الإجماع، فأبدلت عبارة “ترحيل المهاجرين غير النظاميين” بعبارة “عمليات الطرد الجماعي”، ثم أبدلت بعد ذلك “المهاجرين غير النظاميين” بعبارة “يعتقد أنهم في وضعية غير قانونية”، فبأي منطق يتفق الدبلوماسيون والصحفيون المحليون والإقليميون والدوليون، وكل من تحدث عن هذا الملف في العالم، يتفقوا جميعا على اعتبار أن من رُحِّل من موريتانيا مؤخرا يصنف في خانة “مهاجر غير نظامي” ، فتأتي النائب كادياتا لتخرج عن هذا الإجماع، فتصف المرحلين غير النظاميين من بلادنا، بأنهم “ممن يعتقد أنهم في وضعية غير قانونية”؟
ولماذا تُحاولين يا نائبتنا الموقرة ـ وهذا مما يمكن أن يسألكم عنه معالي الوزير ـ أن تكوني ملكية أكثر من الملك، وأن تكوني أكثر شفقة وأشد تضامنا مع المهاجرين غير النظاميين من حكومات بلدانهم، وممثلي جالياتهم، ومن نخبهم، وحتى من بعض نوابهم الذين زاروا مؤخرا بلادنا؟
فهل تريدين منا أن نكذب تصريحات كل أولئك المعنيين بالملف بشكل مباشر، ونكذب شهادات مجتمعنا المدني، بما في ذلك شهادة رئيس اللجنة الوطنية لحقوق الانسان الذي نظم زيارات ميدانية لمقر احتجاز المهاجرين غير الشرعيين، وشهادة رئيس الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب الذي نظم هو أيضا زيارات ميدانية لأماكن الاحتجاز، نكذب كل أولئك، ونصدق روايتك أنت لما جرى، والتي تعتبر أن ما جرى كان عبارة عن عمليات “طرد جماعي” لأجانب من لون واحد؟
يبدو أن مسألة اللون الواحد للمهاجرين غير النظاميين الذين تم ترحيلهم مؤخرا من موريتانيا، هي التي أغضبتك، وهي التي أخرجتك من “وقارك السياسي” الذي عرفناك به، وربما تدفعك للخروج ـ بعد تضحيات كبيرة ـ من النضال في الفضاء الوطني الجامع، إلى النضال في الفضاء العرقي الضيق.
يمكن لمعالي وزير الداخلية أن يثبت لك أن هناك أجانب آسيويين تم ترحيلهم، ويمكنه بالإضافة إلى ذلك، أن يسألك عن اقتراحك الذي ستتقدمين به للزيادة من حجم أو نسبة “تلوين” المرحلين من المهاجرين غير النظاميين، مع العلم أن لون المرحلين سيعتمد أساسا على لون من يدخل بلادنا من المهاجرين غير النظاميين، ومع العلم كذلك أن موقعنا الجغرافي الذي لم نختره، هو الذي جعلنا في منطقة جغرافية توجد فيها حاليا عدة دول غير مستقرة، ويوجد بها حسب بعض الدراسات الموثوقة أكثر من 17 مليون شخص من لون واحد يتأهبون للهجرة، ويعتبرون أن موريتانيا هي الوجهة الأفضل.
فماذا نفعل ـ يا نائبتنا الموقرة ـ لحل إشكالية اللون الواحد للمرحلين من بلادنا من المهاجرين غير النظاميين؟ فهل تقترحين مثلا أن نرسل سفينة لإحدى الدول العربية، أو نرسلها لإحدى الدول غير العربية في آسيا، ونطلب من حكومات تلك الدول أن تقدم لنا مساعدة من مواطنيها الذين يفكرون في الهجرة، لنأتي بتلك المساعدة إلى بلادنا، ثم نوزع أفرادها على مجموعات، وعند كل عملية ترحيل لمهاجرين غير نظاميين نأخذ مجموعة من تلك “المساعدة البشرية” لنلون بها من سيتم ترحيلهم من بلادنا من المهاجرين غير النظاميين، وبهذا نحل مشكلة اللون الواحد للمهاجرين غير النظاميين المرحلين من بلادنا، فهل تقبلين ـ يا نائبتنا الموقرة ـ بهذا المقترح؟
4 ـ يظهر مما سبق أن معالي وزير الداخلية لن يتضرر من سؤال النائب كادياتا، بل إن هذا السؤال سيفيده شخصيا، لا شك في ذلك. إن المتضرر الحقيقي من هذا السؤال ـ وهذا ما على النائب أن تدركه ـ هو الدولة الموريتانية والمصلحة العليا للبلد، فهذا السؤال سيشكل إرباكا للجهود التي قيم بها مؤخرا للحد من تدفق المهاجرين غير النظاميين إلى بلادنا، وهو تدفق بات يهدد بلدنا أمنيا واقتصاديا واجتماعيا.
وإذا ما كان لسؤالك أن يضرَّ بوزير بعينه، فهو سيضرُّ بمعالي وزير الخارجية الذي بذل جهودا كبيرة في الآونة الأخيرة لإقناع الدول التي توجد لها جاليات في بلادنا تضم مهاجرين غير شرعيين، بأن ما تقوم به موريتانيا من ترحيل للمهاجرين غير النظاميين، هو حق سيادي من حقوقها، يجب أن لا يؤثر سلبا على العلاقات الأخوية مع تلك الدول، حتى وإن تضرر بعض مواطنيها من عمليات الترحيل تلك.
إنك بسؤالك هذا ـ يا نائبتنا الموقرة ـ تربكين هذا الجهد الدبلوماسي الكبير، والذي بدأنا بالفعل نقطف ثماره، فاليوم لم نعد نسمع أصواتا في دول الجوار تندد بترحيل مواطنيها الذين يوجدون في بلادنا بطريقة غير شرعية.
الغريب في الأمر أنه لما سكت الجميع، قررتِ أنت أن تطرحي سؤالك هذا، وأن تطلقي قبل طرحه حملة إعلامية وسياسية، لإثبات مغالطة مفادها أن ما جرى في موريتانيا لم يكن عملية ترحيل لأجانب غير نظاميين، بل كان عملية طرد جماعي لأجانب من لون واحد، تم تعذيبهم في أماكن الاحتجاز، وسرقت أموالهم، وحرموا من الأكل والشرب في شهر رمضان الكريم، مع أن أغلبهم من المسلمين.
إن هذه المغالطة قد تعتبرها بعض نخب الدول المتضررة شهادة لا يمكن التشكيك فيها من داخل موريتانيا، فيضعوها في خانة “وشهد شاهد من أهلها”، ويكسرون بموجبها صمتهم، ويطلقون من جديد حملاتهم التحريضية ضد “موريتانيا العنصرية”، والتي تمارس ـ حسب شهادة شاهد من أهلها ـ عمليات الطرد الجماعي للأفارقة السود، على أساس اللون، هذا بالإضافة إلى تعذيب من تطرد منهم، وسرقة أمواله، وحرمانه من الأكل والشرب في شهر رمضان.
فما المصلحة الوطنية التي ستحققينها من هذا يا نائبتنا الموقرة؟
إن كل ما يمكن أن نفهمه من مواقفك الأخيرة، هو أنك لستِ مرتاحة لصمت دول الجوار عن ترحيل الأجانب غير النظاميين في موريتانيا، وأنت تريدين اليوم أن توقفي ذلك الصمت بسؤالك الموجه للوزير، وبإطلالاتك الإعلامية، والتي استحضرتِ فيها عبارات ملغمة من شأنها أن تساهم في كسر ذلك الصمت.
5 ـ إننا بلد متعدد الأعراق والمكونات، ولكل مكونة وطنية امتداداتها في دول الجوار، شمالا أو جنوبا، وهذا له بكل تأكيد تأثيره السلبي على تعزيز الانتماء والشعور الوطني لدى المواطن الموريتاني، سواء كان ذلك المواطن له امتداد عرقي شمالا أو كان له امتداد عرقي جنوبا. إن ضعف الشعور لدى بعض المواطنين بالانتماء الوطني هو الذي جعل يعض الموريتانيين في فترة من الفترات يفضلون انتمائهم العرقي على حساب انتمائهم الوطني، وقد تجلى ذلك في حالتين بارزتين، تتعلق الأولى منهما بموريتانيين حملوا السلاح مع الصحروايين ضد بلدهم، وتتعلق الثانية بموريتانيين آخرين حملوا السلاح في السنغال ضد بلدهم، بعد أحداث 1989 الأليمة.
هناك صورٌ أخرى “ناعمة” من تغليب الانتماء العرقي على الانتماء الوطني، وهذه لا يحمل أصحابها السلاح، وإنما يكتفون بالعمل السياسي أو الإعلامي لمناصرة امتداداتهم العرقية على حساب المصلحة العليا للوطن، وفي اعتقادي الشخصي، فإن “ترحيل المهاجرين غير النظامين” يضع المصلحة العليا للبلد في كفة، ومصلحة الامتدادات العرقية لبعض مكوناتنا الوطنية في كفة أخرى، وإني أخاف من أن يُغَلِّب البعض مصالح امتداداته العرقية على حساب المصلحة العليا للبلد.
ومما يجب ذكره هنا، أن موريتانيا الدولة لم تقصر في حق تلك الامتدادات العرقية، سواء كانت امتدادات في الشمال أو الجنوب، فموريتانيا تستضيف اليوم الكثير من اللاجئين الهاربين من نيران التصفيات العرقية التي يتعرضون لها يوميا في بعض الدول الشقيقة، وخاصة في مالي، ولذا فالدولة الموريتانية لا يمكن أن يُزايد عليها أحد بخصوص مد يد العون لتلك الامتدادات العرقية، كلما كانت هناك ضرورة لذلك.
وهي تستقبل اليوم عشرات الآلاف، بل مئات الآلاف، من ضحايا التصفيات العرقية التي ترتكبها أنظمة عسكرية لا تجد من يصفها بأنها أنظمة عنصرية، فهل اللون هو الذي يحمي تلك الأنظمة من أن توصف بالعنصرية؟
6 ـ صحيحٌ أن أول مرة انتقد فيها النائب كادياتا كانت في اليوم الذي نشرت فيه بيانها الذي تحدثت فيه عن مساءلتها لمعالي وزير الداخلية، ولذا فمن حقها الطبيعي أن تربط ذلك الانتقاد بالانتصار لشخص معالي وزير الداخلية.
وصحيح كذلك أني كنتُ على خلاف دائم مع النائب كادياتا في قضايا اللغة والهوية، وقد دار بيننا نقاش في تلك المواضيع، ومع ذلك فلم يحدث أن انتقدتها يوما ولو بمنشور قصير، فلماذا انتقدها الآن والآن بالذات، أي بعد أن أعلنت عن مساءلتها لمعالي وزير الداخلية؟
هذا سؤال مشروع يمكن أن تطرحه النائب لدعم فرضيتها القائلة بانتصاري لمعالي وزير الداخلية، ولكن يبقى السؤال الأهم: هل كنتُ وحدي في ذلك؟ أم أن هناك أعدادا كبيرة من المهتمين بالشأن العام لم ينتقدوا النائب كادياتا سابقا، وبدؤوا انتقادها بشكل مكثف بعد بيانها المذكور؟
نعم كنتُ على خلاف مع النائب كادياتا في قضايا وطنية جوهرية، ولكني كنتُ أحترم لها تاريخها النضالي الطويل، ولم أتجرأ يوما على انتقادها في فضاء عام احتراما لذلك التاريخ، ولكن المشكلة أن النائب كادياتا بدأت تتصرف الآن، وكأنها أرادت أن تلغي كل ذلك التاريخ في سلة المهملات.
ربما يكون سبب ذلك، أنها كانت في الماضي تناضل من داخل حزب وطني وهو حزب اتحاد قوى التقدم، فخرجت أو أخرجت منه، وولت وجهها شطر تحالف جود، ولكنها في الانتخابات الرئاسية الماضية دعمت مرشحا من خارج ذلك التحالف، وذلك من قبل أن تتبرأ من دعم ذلك المرشح، وتصدر بيانا مع آخرين يتهمون فيه مرشحهم بالخيانه لاعترافه بالنتائج. هكذا وجدت النائب نفسها خارج أي إطار سياسي، وربما جعلها ذلك تغير من خطابها، فتتخلى عن الخطاب الوطني الجامع، وتأتي بخطاب ضيق لعله يستقطب لها بعض أبناء المكونة.
لا يليق بمناضلة وسياسية بحجم النائب كادياتا أن تلغي تاريخا مشرفا من النضال، ولا يليق بها أن تغير اتجاه بوصلة نضالها بعد كل هذه التضحيات، ويبدو ـ للأسف الشديد ـ بأنها ماضية في تغيير اتجاه تلك البوصلة.
إن هذا التغير الحاصل في اتجاه بوصلتك النضالية، يا نائبتنا الموقرة، هو الذي جعلني ومعي آخرين كثر ننتقدك لأول مرة، ونحن لم ننتقدك انتصارا لوزير أو غيره، وإنما انتصارا لكِ أنتِ، في محاولة ـ شبه يائسة ـ لثنيك عن السير في اتجاه خاتمة سياسية لا تليق بك.
وفي الأخير، أرجو يا نائبتنا الموقرة، أن تتقبلي كامل استغرابي وحيرتي.
حفظ الله موريتانيا…