رواية “الترجمان” أو مذكرات ولد ابن المقداد..

author
0 minutes, 1 second Read

 

وكالة أخبار اليوم     (بعد استشهاد صديقي الأمير المجاهد سيدي أحمد ولد أحمد عيدّه)، “سأسعى إلى التقاعد، وقد اقتربتُ من الستّين.. ولم تعد لي أي رغبة للاستمرار في خدمة الفرنسيين.. لقد اقتربتُ منهم وعملتُ معهم من أجل البيضان؛ قومي وأهل مودتي… أما اليوم، فأرى أن عليّ التفرغ لشأن العلم والأدب.. الشعرُ وحده (…) يمكّنُ من النسيان ويهدئ من الروعة، وهو بلسم الأحزان.. سألجأ إليه وأغرقُ في لُجّته.. وأقضي في مجالسه جُلّ أوقاتي.. سأبحثُ في الأدب والموسيقى عما عجزتُ عنه في ممارسة السياسة التي أخذتْ مني زهرة شبابي وأحلى سنوات عمري.. لعل وجودَ  البيضان الحقيقي كامن في هذه الثقافةالأصيلة، ولعل مستقبلهم مرهون بها.. كيف لهم أن يحافظوا على شخصيتهم وهويتهم ووحدتهم بدونها؟ أليْستْ السياسة هي ما يفرقهم ويشتت شملهم؟ والأدب والموسيقى هما ما يُقرّبُ بينهم ويعزز روابط الانسجام والتوافق بينهم؟ صحيح أنني ولْفِيٌ ولست عربي النسب، لكني وثيق الإيمان بعراقة وأصالة هذه الثقافة وشديدُ الاعتزاز بها، وأرى أنّ مستقبل هذا الكيان الجديد الذي صنعته فرنسا باسم موريتانيا هو أن يكون على شاكلة (مدينة) سان لويس، بؤرة انصهارٍ وتداخلٍ بين الأعراق والثقافات والقوميات، وليس أقدر من الثقافة على نسج هذه الروابط وتوطيد تلك الأواصر والوشائج…

لقد اختلفتُ مع صديقي الأمير الراحل أشد الإختلاف، بل تقاتلنا في جيشين متعاديين، إلا أن الشعر كان رابطتنا المشتركة وصلتنا المكينة.. واليوم أحس بفراغ قاتل بعد أن تركَ لي الميدان وحيدا معزولا..”

هكذا تحدث بحرقة المترجم السنغالي في بلاط الحكام الفرنسيين بمدينة “سان لويس”، ضابط الإستخبارات الفرنسي، المدعو دودو سك والشهير باسم محمدن ولد ابن المقداد (1867-1943)  على يد الكاتب والمفكر -أستاذنا المبجل- الدكتور  السيد ولد أباه، في رائعته رواية “الترجمان” التي صدرت في السنة الماضية عن المركز الثقافي للكتاب في الدار البيضاء وبيروت.

و”الترجمان” هي رواية حقا باذخة معنى ومبنى، لغة وسردا، تقنية وحبكة.. صدرت للروائي المبدع د. السيد ولد أباه، بعد روايته الأولى “الشنقيطي”. وهي مثلها تماما، جاءت لتأخذ موقعها المتميز في سجل الروايات العالمة التي تعتمد في تصميم بنيتها السردية على وقائع ثابتة وأحداث تاريخية حقيقية، لكن طبعا، مع أخذ الروائي حريته في التخيل والتصرف فنيا وأدبيا وسرديا في تلك الأحداث والوقائع بما يخدم الثيمة والطرح والمقاربة الإبداعية التي اختارها

وكما سبق ان قدم لنا المؤلف السيرة الذاتية لشخصية محورية في التاريخ والثقافة الشنقيطية هي الشاعر والسياسي “ولد رازگه”، في رائعته رواية “الشنقيطي”، ها هو يقدم لنا من جديد، السيرة الذاتية لشخصية محورية أخرى لعبت دورا بارزا في التاريخ السياسي الحديث للفضاء الموريتاني الناشىء في طور التشكل في فترة بداية الغزو الإستعماري الفرنسي، وأسهمت بسخاء في إثراء ثقافة وأدب “البيضان”  في لحظة تعايش مجتمعي وثقافي في مدينة “سان لويس” السنغالية المخضرمة جمعت بين كل المجتمعات المحلية والوافدة، وطبعت الجميع بميسمها الخاص كفضاء تعددي لمزيج من المجتمعات المختلفة المتساكنة والمتعايشة بمحبة وتسامح.

كان ولد ابن المقداد شخصية مخضرمة، حيث عاش جزء من طفولته ومراهقته يقدر بحوالي خمسة عشر سنة متتلمذا  على المحاظر في خيام ” أهل إگيدي” فأحسن قرض الشعر الفصيح والحساني، وبنى مبكرا صلاته وتوطد تعلقه بمجتمع البيضان، ليفتح لهم قلبه وداره المشهورة بعد أن أصبح موظفا ساميا لدى الإدارة الإستعمارية في “سان لويس” واسمها الأصلي هو “اندر”، لتكون تلك المدينة ناديا ثقافيا بيضانيا في قلب عاصمة أرادها المستعمر  مستوطنة أو قلعة غربية منيعة تخترق افريقيا، لكن السكان المحليين قد نجحوا في تحويلها إلى جسر للتعايش والتعارف والتضامن ما بينهم، فتجاورت المدينة الفرنسية مع “اندر” القديمة، قبل أن تتحول “اندر” إلى عاصمة مشتركة بين من موريتانيا والسينغال.

كان لولد ابن المقداد وعي مبكر بضرورة العيش المشترك وتثمين المشتركات الثقافية والحضارية بين المكونات المجتمعية. وكان يحدث خلّانه بأنه يريد لهذا الكيان الجديد المسمى موريتانيا، أن يكون على غرار “سان لويس” في انفتاحها وامتزاج أهلها وتضامن سكانها..

وكان ولد ابن المقداد يقدم  نفسه نموذجا لهذه التركيبة الخلاسية الفريدة .. فهو سليل الأسرة الولفية، الذي تعلم في مرابع ونجوع إكيدي واستوعب ثقافة الصحراء والنهر معا، ولم يعد يشعر بأي فرق بين جذوره الأصلية وهويته المكتسبة..

وفي هذه الرواية التحفة، يخلد مؤلفها على لسان ولد ابن المقداد، مآثر المقاومة الموريتانية ضد المستعمر الفرنسي الغاشم في سفر عجيب من السرد الجميل والتوثيق الحدثي الدقيق..

حيث يعبر ولد ابن المقداد عن إعجابه  الشديد بالمجاهد الأمير الشاب سيد أحمد ولد أحمد عيدة، الذي عرفه عن قرب أثناء زياراته لآدرار، وارتبط معه بصداقة مكينة.

و رغم اختلاف الموقف والموقع بين الرجلين، إلا أن الشعر ولغن قد وحد بينهما..  ولكن تعلق ولد ابن المقداد بشعر الأمير واعجابه بشخصيته الفذة جعله يحتفظ في مكتبته الشخصية بصورة جدارية مكبرة للأمير ولد أحمد عيده، كان يخلو إليها أحيانا في آخر أيامه، ويناجيها هامسا: “لقد مات جزء كبير مني منذ وفاة سيد أحمد.. صحيح أننا قد عشنا حياتين متقابلتين.. ولكننا استطعنا بالشعر أن نتغلب على حواجز السياسة وأهوال الحروب والمعارك..”

هنيئا للروائي المتميز البرفسور السيد ولد أباه على خطى كبار الرواد المؤسسين للرواية التاريخية العربية من أمثال سليم البستاني، وفرح أنطون، وجورجي زيدان، وعبد الحميد جودة السحار.

إنه عمل أدبي رائع يستحق القراءة والتأمل.. تحية إجلال وتقدير لأستاذي المبجل السيد ولد أباه!

الدكتور محمد السالك ولد إبراهيم / أكاديمي موريتاني

Similar Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *