القبيلة بين الوعي والمصلحة: حين تصبح بديلاً عن الدولة ومصدراً للشرعية / حمادي سيدمحمد أباتي

author
0 minutes, 3 seconds Read

 

> “لم تعد القبيلة ظلاً للنظام، بل أصبحت أحد أركانه الصلبة… لكن خلاصها لن يكون في التبعية، بل في الوعي.”

 

 

مدخل: الدولة التي لم تكتمل والقبيلة التي لم تنكسر

منذ استقلال موريتانيا، لم تستطع الدولة أن تفك ارتباطها العضوي بالقبيلة، ولم تتمكن القبيلة من الانسحاب من الحياة العامة.
ظلت العلاقة بين الطرفين علاقة اعتماد متبادل: الدولة تستند إلى القبيلة لضمان الولاءات، والقبيلة تستند إلى الدولة للحفاظ على الامتيازات.
وفي هذه الحلقة المفرغة، ظل المواطن الموريتاني يتأرجح بين “الدولة الغائبة” و”القبيلة الحاضرة”، في مشهد يعكس عجز المشروع الوطني عن تجاوز البنية التقليدية.

 

القبيلة ركيزة النظام لا ظله

القبيلة لم تعد مجرد موروث اجتماعي، بل غدت ركنًا من أركان النظام السياسي. فالمناصب العليا والصفقات والمشاريع، وحتى فرص التوظيف، تمر في الغالب عبر قنوات الانتماء القبلي.
لم يعد من المعيب – كما كان يُظن في الخطاب الحداثي – أن يلوذ الفرد بقبيلته، لأنها أصبحت الطريق الواقعي للحصول على الحقوق في ظل تآكل الدولة القانونية.
لكن هذا الواقع، رغم قسوته، يمكن أن يُدار بوعي، لا بتواطؤ. فالقبيلة يمكن أن تكون رافعة اجتماعية وسياسية إذا وُجِّهت نحو خدمة المصلحة العامة، لا نحو تعزيز النفوذ الفردي.

 

القبيلة كضمان اجتماعي في ظل دولة غائبة

في غياب التأمين الصحي الفاعل ونظام الضمان الاجتماعي، يجد المواطن الموريتاني نفسه مضطرًا إلى اللجوء لقبيلته عند المرض أو الفقر أو الحوادث.
القبيلة تدفع الدية، وتتكفل بالعلاج، وتضمن الإفراج عن أبنائها، وتسدّ الثغرات التي تركها انهيار مؤسسات الدولة.
غير أن هذا الدور، وإن كان إنسانيًا، يظل شاهدًا على فشل الدولة الحديثة في أداء وظائفها الأساسية، وتحولها إلى “ظلّ إداري” فوق واقع اجتماعي تقليدي لم يتغير.

 

تفاوت القبائل… بين التاريخ والهيمنة

ليست القبائل على مستوى واحد من الوعي أو النفوذ. فالتاريخ الاستعماري للبلاد ترك بصمته على توزيع القوة داخل النسيج الاجتماعي.
القبائل التي شاركت المستعمر في إدارة البلاد، أو استفادت من قربها من الإدارة الفرنسية، ورثت نفوذًا سياسيًا واقتصاديًا مكّنها بعد الاستقلال من السيطرة على مفاصل القرار.
في المقابل، ظلت القبائل التي رفضت التماهي مع الاستعمار، أو نأت بنفسها عن تحالفاته، تعاني التهميش والعزلة، وتدفع ثمن مواقفها حتى اليوم.
ولعل أخطر ما ترتب على ذلك هو تمييع البنية الداخلية للقبائل المعارضة، عبر زرع الخلافات بينها وإضعاف روابطها، حتى تفقد القدرة على التأثير الجماعي.

 

المال والعدد… رأس المال القبلي

مصادر قوة القبيلة اليوم لا تتعدى اثنين: كثرة العدد أو امتلاك المال.
لكن حين تتشرذم القبيلة، يفقد المال معناه، لأن الوعي الجمعي هو ما يحول الثروة إلى نفوذ.
في كثير من الحالات، نجد قبائل تمتلك إمكانات مالية معتبرة لكنها تظل ضعيفة التأثير، بسبب تشتت أفرادها وانعدام رؤية موحدة، وهو ما تستفيد منه النخب السياسية في إعادة إنتاج التبعية.

 

الأطر ومسؤولية الوعي الجمعي

الأطر المنتمون إلى المجموعات المهمشة يتحملون مسؤولية استثنائية في إعادة بناء الوعي داخل قبائلهم.
فبدلاً من أن يذوبوا في منظومة الولاءات، عليهم أن يعملوا على توعية مجتمعاتهم بمصادر الخلل في توازن القوى، وأن يدفعوا نحو تمثيل نزيه ومستقل.
إن تمثيل المجموعة بفردٍ منها – مهما كان نفوذه محدودًا – أفضل من تركها تستجدي من استفاد من تهميشها.
فالقبائل الأخرى لا تقيس الأمور من زاوية المواقف الفردية، بل من صورة ممثلها في النظام، مهما كانت الفجوة بينه وبين قومه.

 

من القبيلة إلى الدولة: الطريق المعاكس

لا يمكن لموريتانيا أن تبني دولة حديثة ما دامت القبيلة تمثل أداة للتمكين لا فضاءً للتكافل.
فاستمرار النظام في إدارة المجتمع بمنطق التوازن القبلي، بدل المساواة القانونية، يعني إعادة إنتاج نفس أسباب التهميش والانقسام.
إن الإصلاح لا يبدأ بإلغاء القبيلة، فهذا وهم، بل يبدأ بتحويلها من أداة تبعية إلى حاضنة وعي اجتماعي؛ من الولاء إلى المواطنة، ومن القرابة إلى الكفاءة.

 

خاتمة: حين يُعاد تعريف الولاء

ما لم تتحول القبيلة إلى فضاء وطني للوعي والتكافل، سيبقى الوطن رهينة لتوازنات هشة لا تصنع دولة.
إن معركة الوعي القبلي ليست ضد التاريخ، بل ضد استغلاله.
وعندما يدرك الأفراد أن خلاصهم في بناء دولة تحميهم لا قبيلة تأويهم، سيكون بالإمكان الحديث عن مشروع وطني جديد، لا مكان فيه لولاء يعلو على الولاء لموريتانيا.

Similar Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *