موريتانيا بين تشكّل الدولة الوطنية، تنازع الهويات، وإمكان بناء تعايش مستدام

author
0 minutes, 3 seconds Read

 

مقدمة

أخبار اليوم.   انبثقت الدولة الموريتانية الحديثة في منتصف القرن العشرين بوصفها كيانًا سياسيًا جديدًا على خريطة غرب إفريقيا، ناشئًا في سياق إقليمي مضطرب تتداخل فيه اهتمامات الدول المجاورة ومصالح القوى الاستعمارية. وقد أثّر هذا الوضع المبكر في مسار تشكّل الهوية الوطنية، وخلق حالة توجس متبادل بين المكوّنات السكانية، كما فتح الباب أمام قراءات متباينة لطبيعة الدولة وحدودها وأولوياتها الرمزية والثقافية.
ولفهم هذه اللحظة المعقدة، لا بد من العودة إلى جذور التوترات، تحليل أدوار الأطراف المختلفة، ثم بحث شروط الانتقال من صراع الهويات إلى تعايش حقيقي يتأسّس على الاعتراف المتبادل لا على الشكوك التاريخية.

 

أولاً: الولادة الصعبة للدولة الموريتانية ومشاريع الضم الإقليمي

جاء استقلال موريتانيا في لحظة إقليمية تشهد صعود دولٍ ذات تقاليد بيروقراطية أقدم ونزوع واضح نحو التوسع أو فرض النفوذ، خصوصًا في ظل وجود استعمار فرنسي لم يتخلّ عن حساباته الاقتصادية (خاصة استغلال منجم الحديد في الشمال) ولا عن رغبة في الحفاظ على ترتيبات إدارية موروثة عن الحقبة الاستعمارية.

وقد مثّلت موريتانيا، ككيان ناشئ محدود الموارد وضعيف البنية المؤسسية، هدفًا سهلاً لبعض الأطراف التي رأت في “المولود الجديد” فرصة لإعادة رسم الخريطة الإقليمية. فبعض هذه الأطراف عبّر صراحة عن رغبته في الضم، بينما تبنّى آخرون استراتيجية أكثر التفافًا: دعم استقلال موريتانيا مرحليًا، ريثما تتهيأ الظروف لإعادة طرح مشروع الضم حين يفقد البلد الجديد توازنه الدفاعي والسياسي.

 

ثانيًا: سؤال اللغة والهوية… ورهانات ما بعد الاستعمار

أحد أكثر الملفات حساسية في تاريخ موريتانيا المبكر كان ملف اللغة، بوصفها حاملاً للهوية وروح الدولة الوليدة.
فعلى الرغم من أنّ اللغة العربية ظلّت لغة التعليم المحظري، والقضاء التقليدي، وتدوين الذاكرة الدينية والتاريخية لدى مختلف سكان البلاد بما فيهم العديد من سكان الضفة، فإنّ الإرث الاستعماري أدّى إلى ترسيخ حضور الفرنسية في شريحة محدودة من المتعلمين.

وخلال مؤتمر الاستقلال (مؤتمر ألاك)، برزت مواقف رافضة لتعريب الإدارة والتعليم، في انسجام –في جزء من خلفياتها– مع رؤية فرنسية-سنغالية كانت تسعى إلى إبعاد موريتانيا عن فضائها العربي وإعادة ربطها بالمجال الفرانكوفوني جنوبًا. وقد غذّت السنغال هذه الرؤية بالدعم السياسي والثقافي لشرائح معينة كانت تخشى هيمنة “لغة الأغلبية” داخل الدولة المركزية الفتية.

ومع إدخال ساعات إضافية من العربية والتربية الإسلامية سنة 1966، قدّم بعض السياسيين من تلك الشرائح استقالاتهم، في لحظة تُظهر حجم التوتر المرتبط بسؤال الهوية. واستمر التوجس حتى نهاية الثمانينيات، حيث اتُّهمت جهات إقليمية –خصوصًا السنغال– بتشجيع بعض الحركات الراديكالية، ليس فقط بدافع المطالبة بالحقوق الثقافية، بل أيضًا ضمن تنافسات إقليمية أوسع.

ومع ذلك، لا يمكن قراءة كل مواقف سكان الضفة ضمن منطق “الخضوع لتأثير خارجي”؛ فجزء من هذه المواقف يتصل بمخاوف اجتماعية-ثقافية حقيقية من فقدان المكانة أو من اختلال موازين الفرص بين المكونات، وهي مخاوف تحتاج إلى إدارة سياسية حكيمة لا إلى نزاع هوياتي مستمر.

 

ثالثًا: الهجرة، التجنيس، وإشكاليات البناء الوطني

شهدت موريتانيا منذ الاستقلال أشكالًا متعددة من حركة السكان عبر الحدود، بعضها مرتبط بترتيبات استعمارية قديمة؛ فقد جرى استقدام عمال وموظفين من دول الجوار، كما ظلّت الحدود مفتوحة في وجه حركة التجارة والمواسم الزراعية، وأحيانًا في اتجاه الحصول على أوراق ثبوتية أو خدمات عمومية.

ومع مرور الزمن، تجمّعت حول هذه الحركة السكانية ملفات شائكة:

تجنيس غير منضبط في بعض الفترات،

استغلال سياسي للمهاجرين غير النظاميين،

دعاوى زائفة حول الانتماء الوطني،

احتجاجات مرتبطة بعمليات الترحيل،

وتداخل بين الهجرة الاقتصادية والحسابات السياسية لبعض التنظيمات.

هذه الوقائع خلقت حالة ارتباك سياسي وأمني، وزادت من صعوبة بناء سردية وطنية جامعة؛ إذ يشعر جزء من المواطنين أنّ موارد الدولة تُستنزف، بينما يرى آخرون أنّ الدولة لم توفّر آليات قانونية شفافة تضمن العدالة للجميع.

 

رابعًا: الإرث الإنساني ومسؤولية الدولة

يمثّل ملف الإرث الإنساني أحد أكثر الملفات حساسية في الذاكرة الوطنية الحديثة.
والتعاطي الجاد مع هذا الملف لا يقتصر على البعد القانوني فحسب، بل يشمل:

الاعتراف بالوقائع،

توفير آليات إنصاف عادلة،

بناء ثقة متبادلة بين الدولة والمجتمع،

وإغلاق باب توظيف الجراح التاريخية في مشاريع سياسية ضيقة.

فلا دولة مستقرة دون ذاكرة مصالحة، ولا مصالحة دون شجاعة الاعتراف ومسار إصلاح مؤسسي شامل.

 

**خامسًا: التعايش مهارة اجتماعية… لا شعارًا سياسيا

يميل الخطاب السياسي في كثير من الأحيان إلى استخدام مفردة “التعايش” بوصفها شعارًا جاهزًا، بينما الحقيقة أنّ التعايش عملية اجتماعية معقدة لا تكتمل بقرارات فوقية ولا بيانات رسمية.

فالتعايش يقوم على:

1. القدرة على فهم اختلاف الآخر دون محاولة ابتلاعه أو نفيه؛

2. تحويل الخوف الجماعي إلى لحظة وعي حيث يُدرك الجميع أنّ التنوع ليس تهديدًا بل مصدر ثراء للتجربة الإنسانية؛

3. إعادة بناء لغة مشتركة تتيح التواصل دون محو الفروق الهوياتية؛

4. تفكيك الصور النمطية التي تصنع المسافة بين المجموعات؛

5. مأسسة العدالة الثقافية بحيث لا يشعر أي مكوّن أنّه مهدَّد في رموزه الأساسية.

 

بهذه المقاربة، يصبح التعايش ممارسة يومية توازن بين الحق في الاختلاف والضرورة الأخلاقية للعيش المشترك، لا مجرد صياغة خطابية تُستدعى في لحظات الأزمة.

 

خاتمة

إنّ النقاش حول الهوية واللغة والهجرة والإرث الإنساني ليس نقاشًا عن الماضي فقط، بل عن مستقبل الدولة الوطنية وشرعية مؤسساتها وقدرتها على دمج كل مكوناتها.
وإذا كانت موريتانيا قد وُلدت في سياق ملتبس، وتعرّضت لضغوط إقليمية ورهانات خارجية، فإنّ مسؤولية الجيل الحالي –دولةً ونخبةً ومجتمعًا– تتمثّل في تحويل هذا الإرث المعقد إلى فرصة لصياغة عقد اجتماعي جديد، يقوم على:

دولة عادلة،

وهوية جامعة غير إقصائية،

ومؤسسات قادرة على إدارة التنوع،

وتعايش مبني على الإدراك العميق بأنّ الاختلاف ليس عبئًا، بل شرط وجودنا المشترك.

بهذا المسار وحده يمكن تعزيز الوحدة الوطنية وبناء مستقبل أكثر توازنًا واستقرارًا للجميع.

Similar Posts