أخبار اليوم. تجمع الأدبيات السياسية الحديثة على أنّ أيّ تهديد خارجي لا يجد له موطئ قدم في جسد دولة ما إلا إذا كان هذا الجسد مثقلاً بتحديات داخلية، وفي مقدمتها الجهل، وتفكك البنية الاجتماعية، واضطراب منظومة القيم الجامعة. وقد أشار عبد الرحمن الكواكبي مبكراً إلى أنّ قياس رقيّ الشعوب أو تخلّفها يتم عبر مراقبة علاقاتها البينية: فإذا سادت روح التضامن والتكافل دلّ ذلك على نضج مجتمعي، أمّا إذا طغت ثقافة التحاسد والتباغض فذلك مظهر واضح من مظاهر الانحطاط.
1. جذور التحدي الداخلي: بين إرث البداوة وغياب الاندماج الوطني
على الرغم من امتلاك الشعب الموريتاني رصيداً حضارياً كبيراً—من انتشار العلم الشرعي، وبروز أعلام ملأ صيتهم العالم الإسلامي، وقيام منظومة المحظرة الشنقيطية التي شكّلت جامعات متنقلة قبل ظهور الدولة الحديثة—إلا أنّ الواقع التاريخي ظل محكوماً بطابع البداوة والانتجاع. وقد حال هذا النمط الاجتماعي دون انصهار المكونات في مشروع وطني واحد، وأدى إلى تشكل إمارات وقبائل مستقلة، لكل منها مجالها وحدودها ورموزها، إضافة إلى حروب قبلية متكررة لأسباب تافهة، وصراع بين الإمارات نفسها.
هذا التفكك البنيوي هو الذي مهّد الطريق أمام الاختراق الاستعماري. فالمستعمِر لم يدخل من فراغ، بل وجد مجتمعاً منقسماً، ونخبة تقاوم، وأخرى تبرّر وتتعامل تحت ذريعة “وقف النزيف الداخلي” وإعادة توحيد البلاد. وبعد أن رسّخ الفرنسيون نفوذهم، زرعوا بذور الانقسام العرقي بين الزنوج والعرب، واحتضنوا خطاباً يغذّي الشكوك بين المكوّنين، بدءاً من قضية اللغة، وتصوير العربية بأنها أداة تفوق “العرب” على غيرهم، وصولاً إلى استغلال الإشكاليات التاريخية حول الهوية. وقد تجاهلت تلك الأطروحات عمداً أنّ مدارس البلار على الضفة كانت قائمة قبل الاستعمار، وأنّ مناطق بولارية وسوننكية عامرة بالعلماء والشعراء دمّرت كجزء من سياسة إضعاف القوى المتدينة والمثقفة.
2. الدولة الوطنية ومحاولة البناء فوق أرض هشّة
عقب الاستقلال، حاول “جيل التأسيس” إقامة دولة حديثة من الصفر، ونجح في بناء مؤسسات أساسية، لكنه اصطدم بمعضلة ترسيخ هوية وطنية جامعة. وظهر ذلك بوضوح عند أولى محاولات “مرْتَنة” المدرسة، حيث أدت إضافة ساعات من اللغة العربية والتربية الإسلامية إلى احتجاجات واسعة واستقالة وزراء من المكوّن الزنجي، ما كشف استمرار الشروخ الداخلية رغم وجود دولة جديدة.
وإلى اليوم، يظل أثر التحدي الداخلي بارزاً: هشاشة الثقة بين المكونات، غياب مشروع وطني متوافق عليه، واستمرار حضور الهويات الأولية على حساب الهوية الجامعة.
3. من التحدي الداخلي إلى التحدي الخارجي الجديد: الدولة العميقة ودورة السلطة
تبدو المفارقة أنّ التحدي الخارجي اليوم لم يعد يأتي من قوة أجنبية، بل من تحالفات داخلية مترسّخة تُمارس دور “الخطر الخارجي” على المجتمع، رغم أنها تتموضع في قلب الدولة. فمنذ تكريس النظام السياسي لتداول شكلي للسلطة ضمن ما يشبه “التوريث المؤسسي”، أصبحت المؤسسة العسكرية هي الفاعل الحاسم. وعلى الرغم من تبني نظام شبه رئاسي وتعددية حزبية، فإنّ الواقع السياسي أقرب إلى إعادة إنتاج النخبة ذاتها بآليات جديدة.
فبعد تعديل دستور 2005، الذي وضع سقفاً للولايات، شهدت البلاد تنازلاً من جنرال لرفيقه بعد أربعة عقود من العمل المشترك، قبل أن تتدخل ما يعرف بـ”الدولة العميقة”، خصوصاً شبكات الفساد المالي، لزرع الشقاق بين الرجلين، رغم تبادل عبارات الودّ والثناء عند انتقال السلطة.
اليوم يقف الرئيس الحالي أمام إرث ثقيل: تجربة شخصية مع سلفه جعلته أكثر حذراً من شبكات النفوذ، وأكثر ميلاً لإعادة ترتيب مراكز القوة. ويتردد أن مساعي جارية لتحييد بعض العناصر العسكرية ذات التأثير، تمهيداً لتهيئة شخصية “مؤتمنة” تتسلم السلطة لاحقاً. هذه الآلية—أي تحكم النخبة في مستقبل الحكم بمعزل عن الإرادة الشعبية—هي ما يشكّل التحدي الخارجي الجديد المفروض على شعب أُنهكته الوعود وأثقلته الخيبات.
4. العدالة الزائفة: أداة لإعادة إنتاج الظلم
في ظل هذا السياق، أصبحت العدالة—أو ما يشبه العدالة—أداة متطورة لتجميل القهر. فبينما يُلاحَق الضعفاء بأقسى العقوبات، يظل كبار الفاسدين بمنأى عن المساءلة. وهكذا تتحول منظومة القضاء من رافعة لتحقيق المساواة إلى آلية لإعادة إنتاج الامتيازات، في مجتمع ما تزال البنى العميقة فيه تعيد تعريف الحقوق تبعاً للقرب من السلطة لا تبعاً للقانون.
فالعدالة المزيفة لا تُصلح الدول، بل تعمّق الشعور بالغُبن، وتُبقي التحدي الداخلي حيّاً، وتجعل التحدي الخارجي—المتمثل في النخب المتحكمة—أكثر رسوخاً.
خاتمة
إنّ قراءة واقعنا السياسي والاجتماعي اليوم تكشف بوضوح أنّ معركتنا ليست مع الخارج بقدر ما هي مع ذواتنا: مع جهل يضعف المناعة الوطنية، ومع انقسامات تستحضر الماضي بدل أن تُؤسّس للمستقبل، ومع نخب تُعيد تدوير السلطة والثروة في دوائر مغلقة. وإن لم تُعالج هذه التحديات من جذورها، فسنبقى رهائن دوامة تتبدل فيها الوجوه بينما تظل البنية العميقة على حالها.
ولذلك، فإنّ أي إصلاح حقيقي يبدأ من الداخل: بإعادة بناء الثقة بين المكونات، وتعزيز العدالة الحقيقية، وتحرير الدولة من قبضة مصالح ضيقة تتخفى خلف شعارات الشرعية والقانون. فالتاريخ يثبت أن الأمم لا تُقهر إلا إذا قبِلت هزيمتها
