أخبار اليوم. يبدو الحوار السياسي في موريتانيا، منذ الاستقلال إلى اليوم، مسرحًا تتكرّر عليه الأخطاء ذاتها بوجوه مختلفة، حتى خُيّل للمتأمل أن البلاد محكومةٌ بدائرة مغلقة لا فكاك منها: معارضة لا تُجيد صناعة الحوار، وسلطة لا تُحسن فنّ السياسة؛ معارضة تُخضع مطالبها للمزايدة والتكتيك، وسلطة تتعامل مع الحوار كواجهة تجميلية لا كأداة هندسة وطنية للمستقبل. وبين هذا وذاك يقف الوطن مُنهكًا، يجرّ خلفه ميراثًا ثقيلًا من الاضطراب السياسي والإرث الإنساني المثقل بالظلم والتراتبية والتمييز.
ومنذ 1978 — حين سقط النظام المدني الأول — دخلت البلاد عهد الانقلابات المتعاقبة التي أصبحت جزءًا من «البنية العميقة» للسلطة. الانقلاب العسكري عام 2005 جاء بوعد الانتقال الديمقراطي؛ فتمّ استفتاء دستور 2006، ثم انتخابات 2007. بدا المشهد يومها وكأنه يجسّد ما قاله روسو: «تُبنى الحرية حين يُعاد تأسيس العقد الاجتماعي برضا الناس جميعًا»؛ غير أن ما بُني لم يكن عقدًا اجتماعيًا، بل ترتيبات هشة سرعان ما هوت بانقلاب 2008، مؤكدةً مقولة هوبز: «القوة بلا شرعية لا تُنتج دولة، بل تُنتج لحظة مؤقتة من النظام». وهكذا، عاد البلد إلى نقطة البداية، لتثبت التجربة أن أي حوار لا تحميه مؤسسات قوية ولا يُرسَّخ في ضمير المجتمع يظلّ مجرّد هدنة سياسية لا أكثر.
وجاءت محاولات أخرى في 2009 و2011 و2016 و2022، حوارات وُصفَت بأنها شاملة لكنها لم تتجاوز حدود النخبة. فالسلطة كانت — كما يقول ميكافيلي — «تفضّل الاستقرار الذي تفرضه القوة على الاستقرار الذي يُنتجه التوافق»، والمعارضة كانت في كثير من الأحيان تُساوم على مواقع لا على مبادئ، فتسقط في ما حذّر منه غرامشي حين قال: «الأزمة تحدث عندما يموت القديم ولا يولد الجديد». لقد ظلّ الحوار في موريتانيا أسيرًا لهذه الأزمة: قديمٌ لا يموت، وجديدٌ لا يولد.
غير أنّ الأخطر من كل ذلك هو أن الحوار السياسي يجري فوق أرضية اجتماعية غير متصالحة مع ذاتها. فالإرث الإنساني — من العبودية إلى الطبقية إلى التهميش — يظلّ كجرحٍ مفتوحٍ يمنع نشوء دولة المواطنة. ولا يمكن لحوار سياسي أن ينجح فوق أرض لم تُطهرها عدالة انتقالية ولا مساواة حقيقية. وهذا يعيدنا إلى ما قاله جون لوك: «لا يُبنى المجتمع على القهر، بل على الاعتراف المتبادل بالحقوق الطبيعية للإنسان». ومن دون هذا الاعتراف تظل الديمقراطية شكلًا بلا مضمون، وحوارًا بلا جذور.
إن المشكلة إذن ليست في غياب الحوارات، بل في غياب شروط الحوار: الثقة، والإرادة، والمؤسسات المستقلة، والقدرة على تقديم التنازلات المتبادلة. فقد تعاملت المعارضة مع الحوار كفرصة لتحصيل مكاسب ظرفية، وتعاملت السلطة معه كأداة لضبط الإيقاع السياسي، فانهار جوهره. وهذا ما عبّر عنه الفيلسوف هابرماس حين أكد أن «الحوار يصبح باطلًا حين يُختزل إلى وظيفة سياسية لا إلى فعل تواصل عقلاني». وفي موريتانيا، ظل الحوار وظيفةً سياسية، لا فعلًا عقلانيًا ولا مشروعًا لإعادة تأسيس الدولة.
ومع ذلك، فإن الطريق لم يُغلق. هناك شروط موضوعية قادرة على تحويل الحوار إلى رافعة إصلاح: استقلال القضاء وهيئات الانتخابات، إشراك الفاعلين الاجتماعيين المهمشين، خصوصًا ضحايا التمييز، إطلاق مشروع وطني للعدالة الانتقالية يُداوي جراح التاريخ، ووضع جدول زمني صارم لتنفيذ مخرجات الحوار وربطه بالمحاسبة. وهذه الشروط ليست ترفًا سياسيًا، بل ضرورة وجودية، فكما قال مونتسكيو: «القوانين بلا مؤسسات مجرد نصوص، والمؤسسات بلا عدالة مجرد قوة عمياء».
إن موريتانيا اليوم بحاجة إلى حوار يتجاوز لغة الأحزاب، إلى حوار يدمج الفلسفة والعلوم السياسية والتاريخ وفلسفة العقد الاجتماعي، ويعيد بناء الدولة على أساس المواطنة لا الولاءات، وعلى الحقيقة لا المجاملة. فالحوار ليس تبادل شعارات، بل هو — كما يقول أرسطو — «فنّ البحث عن الممكن الأفضل». والبحث عن هذا «الممكن الأفضل» هو ما يمنح الحوار قيمته وضرورته.
ولهذا فإن مستقبل البلد مرهون بقدرة المعارضة على تجاوز خطابات المظلومية نحو إنتاج بدائل واقعية، وبقدرة السلطة على الانتقال من شرعية القوة إلى قوة الشرعية. عندها فقط يمكن أن يولد حوار حقيقي، يداوي الجراح، ويستخرج من تاريخ البلاد المضطرب حكمةً جديدة، ويجعل من الاختلاف مصدر قوة، ومن السياسة طريقًا لبناء وطن يليق بأبنائه جميعًا — وطنٍ لا يُدار بالصدفة، ولا يُحكم بالهيمنة، بل يُبنى بالعقل والإرادة والعدالة
