الشرعيات السياسية في موريتانيا: بين مشروع الدولة الحديثة واستعادة الولاءات التقليدية. حمادي ولد سيدي أباتي.

author
0 minutes, 1 second Read

 

يحلل هذا المقال مسار تشكّل الشرعيات السياسية في موريتانيا منذ الاستقلال، مع التركيز على دور النخب في إعادة إنتاج البنى التقليدية بدل تجاوزها. ويبيّن البحث أن الدولة الموريتانية عاشت توتّرًا مستمرًا بين الشرعية القانونية – العقلانية التي حاول الجيل المؤسس ترسيخها، وبين الشرعيات التقليدية المرتكزة على القبيلة والطائفة والجهوية، والتي تمكنت من العودة بقوة بعد 1978. ويخلص المقال إلى أن تعثّر بناء الدولة الحديثة لا يعود إلى ضعف المؤسسية فحسب، بل إلى التحالف الضمني بين السلطة وشبكات النفوذ الأهلي، ما جعل الشرعية في موريتانيا تركيبًا هجينًا تتقدّم فيه المصالح الخاصة على المصلحة

أولًا: مشروع الجيل المؤسس ومحاولة تفكيك البنى التقليدية

أدرك الرئيس المختار ولد داداه منذ البداية أن بناء الدولة يقتضي تحييد النفوذ التقليدي. ولذلك اتخذ جملة إجراءات كان لها أثر مؤسسي مهم:

تحريم الاجتماعات القبلية،

وقف العلاوات والامتيازات المالية للزعامات،

تعزيز مشروع المدرسة الوطنية كأداة للتطبيع الاجتماعي وبناء مواطنة حديثة.

غير أن المشروع التحديثي لم يبلغ مرحلة الاكتمال: فالتعليم لم يتوسع بالقدر الكافي قبل رحيل المختار، كما ظلّ الريف يحتفظ ببنى الولاء التقليدية التي لم تستطع الدولة الناشئة تفكيكها جذريًا.

 

ثانيًا: الردّة عن مشروع الدولة بعد 1978

شكّل انقلاب 1978 منعرجًا حاسمًا في مسار الشرعية السياسية. فقد تراجعت الدولة لصالح:

1. إحياء الهياكل القبلية داخل الإدارة،

2. تسييس الجهوية عبر إعادة الاعتبار لرموز تاريخية،

3. توسيع نفوذ الأطر القبلية في التعيينات والتسيير المحلي،

4. انتشار الزبونية والمحسوبية مع ضعف هيئات الرقابة.

 

وبينما كان يفترض بالدولة العسكرية أن تُحكم قبضتها على الحقل السياسي، فإنّها

 

رسخت سلطات الأطراف التقليدية لضمان الاستقرار، مما أدى إلى تآكل شرعية المؤسسات.

 

ثالثًا: الشرعية الخطابية في مواجهة الشرعية الاجتماعية

مع دخول البلاد طور التعددية السياسية، ظهر نمط جديد يمكن تسميته بـ “الشرعية الخطابية”: خطابات رسمية متكررة تُدين القبلية والطبقية دون اتخاذ سياسات بنيوية لتفكيك آلياتها.

مثال بارز على ذلك خطاب الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني خلال زيارته للحوض الشرقي. فرغم دعوته لمحاربة القبلية، فإن التعبئة الجماهيرية التي رافقت الخطاب كانت محكومة بالوسطاء المحليين الذين يشكلون الامتداد الاجتماعي لشبكات النفوذ. وتشير الوثائق الإدارية إلى أن وزارة الداخلية اعتمدت منذ 1992 نحو 715 زعيمًا قبليًا وطائفيًا يرتبطون بالدولة بعلاقات مصلحية تجعلهم “ناخبين كبارًا”.

بذلك تتغلب الشرعية الاجتماعية على الشرعية القانونية، ويظل الخطاب أداة رمزية دون أثر بنيوي.

 

رابعًا: إمكانات الإصلاح في السياق الراهن

تواجه موريتانيا اليوم لحظة مفصلية، إذ توجد إمكانية حقيقية لإعادة بناء الشرعية السياسية على أسس مؤسسية، خاصة مع قرب نهاية الولاية الدستورية للرئيس الحالي، ما قد يقلل من ضغط الحسابات الانتخابية. ويقتضي الإصلاح:

إنهاء دور الوساطة التقليدية في صناعة القرار،

استقلالية فعلية للرقابة المالية والإدارية،

ربط التعيينات بالكفاءة بدل الولاءات،

إعادة الاعتبار للمدرسة الوطنية كفضاء لإنتاج المواطنة،

تجفيف منابع الفساد وضمان مبدأ العقوبة والمكافأة.

وتشير تجارب العقود الأخيرة إلى أن سقوط الأنظمة لا يعود فقط إلى ملفات الفساد، بل إلى الصراعات الداخلية داخل منظومة النفوذ، كما كشفت حالة الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز.

خاتمة

تُظهر الدراسة أن الشرعية السياسية في موريتانيا تطورت في سياق صراع مفتوح بين مشروع الدولة الحديثة ومقاومة البنى التقليدية. ورغم مرور أكثر من ستين عامًا على الاستقلال، ما زالت الشرعية التقليدية تحتفظ بقدرة كبيرة على تعطيل المؤسسات. غير أنّ إمكانات الإصلاح ما تزال قائمة، شريطة توفر إرادة سياسية تتجه إلى تفكيك شبكات النفوذ والزبونية، وتقوية الدولة عبر القانون والتعليم وإعادة بناء الثقة بين المواطن والمؤسسة.

إن نجاح موريتانيا في عبور هذا المنعطف يتوقف على مدى قدرتها على الانتقال من شرعية الولاء إلى شرعية المواطنة؛ ومن مجتمع “الوسيط” إلى دولة المؤسسات.

Similar Posts