تسوية الإرث الإنساني في موريتانيا: نحو عدالة شاملة تُغلق باب الابتزاز الدولي

author
0 minutes, 6 seconds Read

بقلم حمادي ولد سيدي محمد أباتي

تسوية الإرث الإنساني في موريتانيا: نحو عدالة شاملة تُغلق باب الابتزاز الدولي

مقال رأي – للنشر في صحيفة دولية

إن بقاء ملف «الإرث الإنساني» مفتوحًا، دون تسوية شاملة ومتوازنة، يجعله قابلاً للاستثمار السياسي والتدويل الخارجي، خاصة في بيئة عالمية يسود فيها منطق النفوذ والضغط على دول الجنوب. ومن هنا، لا بد من مقاربة متوازنة تُفهم العالم أن موريتانيا لا تبحث عن طمس الحقيقة، بل عن صياغة عدالة هادئة تحفظ السلم الأهلي وتقطع الطريق أمام تجار المظلومية وتجار الولاء للخارج.

لقد أثبتت التجربة أن التسويات الانتقائية لا تنتج سلامًا دائمًا، بل تفتح أبوابًا جديدة للنزاع، خصوصًا إذا تجاهلت المظالم التي تعرض لها مواطنون موريتانيون في دول الجوار، حيث وثقت شهادات دولية ومحاضر رسمية ما وقع للبيظان في السنغال خلال أحداث 1989، من اعتداءات وتهجير ونهب، وهي وقائع لا يمكن تجاوزها إذا كان الهدف هو بناء مصالحة وطنية حقيقية.

تجنيد سياسي يضعف اللحمة الوطنية

خلال السنوات الماضية، ظهر تأثير بعض التيارات السياسية والإعلامية في توظيف هذا الملف داخل موريتانيا وخارجها، حيث سُوّق الخطاب على أساس صراع إثني مفتعل، وشاركت في ذلك شخصيات معروفة بتصعيد الخطاب وطلب الدعم من الخارج، مثل برام الداه اعبيد، مريم جنك، وقامو عاشور.
وقد تمكّن هذا الخطاب من التأثير على فئة من الشباب والمغتربين، خصوصًا من ضعيفي التكوين العلمي وناقصي الاطلاع على التاريخ الوطني، ما أدى إلى خلق طبقة من «الوسطاء» وظيفتها الأساسية هي تحويل الملف الإنساني إلى ملف سياسي قابل للتدويل. وهذا ما يشكل خطرًا مباشرًا على النسيج الوطني إذا تُرك دون معالجة جذرية.

الخطاب التاريخي والادعاء الجغرافي: مثال “دولة ماسينا”

تستند بعض الروايات إلى ادعاء أن موريتانيا امتدادٌ تاريخي لكيان يُدعى «دولة ماسينا»، باعتبارها أرضًا “مسلوبة”. لكن المصادر التاريخية والجغرافية الدقيقة تثبت ما يلي:

المعطى التاريخي الحقيقة الموثقة

موقع دولة ماسينا تقع في حوض النيجر الأوسط (وسط مالي حاليًا)، ولم تتجاوز جغرافياً نهر النيجر قط.
طبيعة الكيان كانت دولة فقهية دينية (1818–1862) بقيادة الشيخ أحمدو لوبّو، ولم تكن دولة إثنية أو قومية.
عدم وجود أي امتداد لموريتانيا لا خرائط، ولا وثائق، ولا أرشيف دولي يذكر ارتباطًا جغرافيًا أو إثنيًا بين ماسينا وموريتانيا.
مصادر تاريخية موثقة UNESCO – General History of Africa (Vol. IV)،
British Library Archive – The Masina Empire،
Cambridge University Press – Imperialism and Ethnicity in Africa.

وبالتالي، فإن استعمال «ماسينا» لتأسيس مطالبة سياسية بمناطق داخل موريتانيا يمثّل إسقاطًا تاريخيًا لا يستند إلى خريطة موثقة، ولا إلى أي اعتراف دولي، ولا حتى إلى رواية شفوية معتبرة من أهل المنطقة أنفسهم.

حتى لا تتحول الذاكرة إلى أداة تهديد

من الناحية القانونية والسياسية، فإن أفضل صيغة لتسوية الإرث الإنساني يجب أن تقوم على:

1. شمول جميع الضحايا من كل الأطراف دون استثناء؛

2. الاعتراف المتبادل بالمظالم في الداخل والخارج؛

3. الاعتماد على خرائط وبيانات جغرافية وتاريخية موثقة دوليًا؛

4. إغلاق الملف بعد تسويته بموجب وثيقة رسمية تُسجّل لدى الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة لضمان عدم تحوله إلى أداة ضغط مستقبلي.

 

خيار الدولة: المصالحة الشاملة لا التجزئة

إن المصالحة الوطنية ليست مجرد معالجة لأحداث ماضية، بل هي إعادة تأسيس للعقد الاجتماعي للدولة، وصونٌ لسيادتها، ومقدمة لتنميةٍ تستوعب الجميع.
ولن يستقيم ذلك إلا إذا استُبعد منطق “الضحية الواحدة”، واستُبدل به منطق العدالة المتوازنة والذاكرة المشتركة والمستقبل الواحد.

 

الخلاصة

إن موريتانيا اليوم أمام فرصة لصناعة نموذج استثنائي في المصالحة، يقوم على فهم التاريخ كما هو، لا كما يُراد له أن يكون؛ وعلى حق كل مواطن في الانتماء إلى وطن لا يُباع ولا يُفصَّل على مقاس خطاب سياسي أو عرقي أو خارجي.

فالتاريخ ليس ساحة صراع… بل خزان مشترك للوطن.
والمستقبل لن يُبنى بالتصعيد… بل بـ اتزانٍ يضع الدولة فوق الجميع.

Similar Posts