أخباراليوم أثارت المهرجانات التي أُقيمت مؤخرًا في موريتانيا نقاشًا واسعًا في الفضاء العام، نقاشًا تجاوز حدود الذائقة الفنية أو الاختلاف الثقافي، ليصل إلى سؤال أعمق يمس معنى الدولة، وأخلاقيات الإنفاق العمومي، وحدود التداخل بين الثقافة والسياسة. فحين تتكاثر المهرجانات في بلد يعاني هشاشة اقتصادية وبنيوية، لا يعود السؤال: هل نحب الفرح؟ بل يصبح: ما وظيفة هذا الفرح؟ ولصالح من يُموَّل؟ وبأي منطق يُبرَّر؟
منذ أرسطو، ارتبطت السياسة عند الفلاسفة بفكرة التدبير الرشيد للموارد من أجل الخير العام، لا من أجل الإبهار المؤقت. فالمدينة الفاضلة ليست تلك التي تكثر فيها الاحتفالات، بل تلك التي تُحسن ترتيب أولوياتها. ويُذكّرنا أرسطو في السياسة أن فساد الأنظمة يبدأ حين تتحول الوظائف العمومية إلى وسائل للمنفعة الخاصة أو الرمزية الفارغة. ومن هذا المنظور، تبدو كثرة المهرجانات في المدن الموريتانية، في ظل غياب مردودية اقتصادية أو دينية أو معرفية واضحة، علامة اختلال لا علامة حيوية.
إن الدفاع الشائع عن هذه المهرجانات يقوم على ادعاء “التنشيط الثقافي” و“الترويج للمدن” و“إحياء التراث”. غير أن الفكر النقدي—من كارل ماركس إلى بيير بورديو—يعلّمنا التمييز بين الخطاب والواقع. فماركس نبّه إلى أن السلطة كثيرًا ما تنتج أشكالًا رمزية تُخدّر الوعي الجمعي بدل أن تُحرره، وبورديو أوضح كيف تتحول الثقافة، حين تُدار من فوق، إلى رأس مال رمزي في يد النخب، لا إلى طاقة تحرر اجتماعي. وبهذا المعنى، فإن المهرجانات التي تُموَّل بالمليارات من خزينة الدولة، دون تقييم شفاف أو أثر قابل للقياس، تتحول من فعل ثقافي إلى طقس سياسي مقنّع.
أما من زاوية الاقتصاد، فإن أي إنفاق عمومي—وفق منطق ماكس فيبر في العقلنة الحديثة—يجب أن يخضع لمعيار الفعالية والمردودية. والسؤال البسيط الذي لا يُجاب عنه هو: ماذا تبقى بعد انتهاء المهرجان؟ لا بنية تحتية ثقافية، ولا فرص عمل دائمة، ولا دورة سياحية مستقرة، ولا تراكم معرفي. فقط منصات تُفكك، وأموال تُصرف، وصور تُلتقط. وهذا ما يجعل هذه المهرجانات أقرب إلى الاستهلاك الظرفي للمال العام منها إلى الاستثمار التنموي.
حتى حين تُلبس هذه المهرجانات لبوس الدين، فإن الإشكال لا يزول، بل يتضاعف. فمقاصد الشريعة—كما قررها الشاطبي—قائمة على حفظ الضروريات وترشيد الموارد، لا على المظاهر والاحتفالات. والدين، في جوهره، دعوة إلى المعنى لا إلى الإخراج، وإلى القيم لا إلى البروتوكول. وعندما تتحول المناسبات الدينية إلى منصات خطابية أو مناسبات علاقات عامة، فإنها تفقد بعدها التربوي وتدخل في منطق التوظيف الرمزي.
ولا يمكن إغفال البعد السياسي المحلي، حيث تعكس كثرة المهرجانات، في كثير من الأحيان، حضور الوجوه السياسية وأبناء المدن بوصفهم واجهة التنظيم والرعاية، أكثر مما تعكس حاجات السكان الفعلية. هنا تصبح المدينة فضاءً للعرض لا كيانًا له أولويات، ويغدو المواطن متفرجًا على حدث يُقام باسمه ولا يعود عليه. وقد نبّه ميشيل فوكو إلى أن السلطة لا تُمارَس فقط بالقمع، بل أيضًا بالإنتاج الرمزي وتنظيم الفضاءات والاحتفالات، بما يخدم تثبيت النفوذ وإعادة إنتاج الشرعية.
إن جوهر النقاش الدائر اليوم في موريتانيا حول هذه المهرجانات ليس نقاشًا ضد الثقافة، ولا ضد الفرح، ولا ضد الدين، بل هو نقاش حول المعنى والجدوى والعدالة. فالثقافة التي لا تُنير وعي الناس، ولا تُحسن شروط عيشهم، تتحول إلى زينة. والدولة التي تُكثر من الاحتفال وتُهمل التعليم والصحة والبحث، تُجيد التصفيق وتفشل في التخطيط. وكما قال غرامشي: “الأزمة تحدث حين يموت القديم ولا يولد الجديد، وفي هذا الفراغ تظهر الأعراض المرضية.” ولعل من هذه الأعراض، مهرجانات بلا روح، وبلا أثر، وبلا أفق.
إن السؤال الذي يجب أن يبقى مفتوحًا، بإلحاح فلسفي وأخلاقي، هو: هل نريد مهرجانات تُضيف إلى الإنسان الموريتاني وعيًا وكرامةً وقدرة، أم نكتفي بأضواء مؤقتة تُخفي عتمة الأسئلة الكبرى؟
فبعد أن تنتهي الموسيقى، وتنطفئ المنصات، لا يبقى إلا ما أُنجز فعلًا… لا ما صُوِّر
