حين يُمتحَن صدق الإصلاح: التعليم بين إرادة الوزيرة ومسؤولية النظام

author
0 minutes, 0 seconds Read

 

أخبار اليوم.   ليس خافيًا على أحد أن المنظومة التربوية في موريتانيا لم تنهَر فجأة، ولا سقطت بفعل الصدفة، بل كانت ضحية مسار طويل من التآكل المنظّم، شاركت فيه أخطاء التخطيط، وضعف التكوين، وتغوّل السياسة على الفعل التربوي. ومع ذلك، فإن الاكتفاء بهذه الأسباب التقنية يظل تبسيطًا مُخلًّا لمأساةٍ صنعتها خيارات سياسية قبل أي شيء آخر.

ففي سنوات الاستقلال الأولى، وبرغم شحّ الموارد، كان التعليم يشقّ طريقه بثبات، إلى أن تحوّل إلى ساحة صراع حول الهوية ولغة التدريس، فاختُطف النقاش التربوي من جوهره، وأُلقي به في أتون التجاذبات الإيديولوجية. ومع انقلاب 1978، دخل القطاع مرحلة أكثر خطورة، حين وجدت شبكات النفوذ والاحتكار موطئ قدم داخل المنظومة، فبدأت عملية تفكيك بطيئة ولكن ممنهجة.

وقد جرى هذا التفكيك عبر سياسات رُوِّج لها باعتبارها اجتماعية وإنسانية، بينما كانت في حقيقتها تدميرية: تعميمٌ بلا تخطيط، وتقريبٌ للخدمة بلا وسائل، فتمددت المدرسة كمبنى، وتآكلت كمضمون، وضاعت الجودة، وسقطت هيبة التعليم، وتحول إلى عبء بدل أن يكون رافعة وطنية.

في هذا المشهد المثقل بالإخفاقات، جاءت وزيرة التربية الحالية بخطوات مختلفة في الشكل والمضمون، عكست إرادة إصلاحية جادة، وسعيًا لكسر حلقة التواطؤ الصامت مع واقع مختل. ورغم أنها تعمل داخل بيئة محاطة بلوبيات متجذّرة، صُمِّمت تاريخيًا لحماية الفساد وإعادة إنتاجه، فإنها شرعت في ملامسة الجرح الحقيقي: تشخيص الخلل بدل تجميله.

وقد تجلّى ذلك في اعتماد قدر أعلى من الشفافية في التعيينات والتحويلات، والشروع في مراجعة الخريطة المدرسية، وهي إجراءات، وإن بدت تقنية، فإنها تضرب في عمق مصالح راسخة، وتفسر حجم المقاومة الصامتة التي تواجهها.

وهنا تحديدًا، ينتقل النقاش من أداء الوزيرة إلى مسؤولية النظام. فالإصلاح التعليمي لا يُقاس بحسن النوايا ولا بالتصريحات، بل بمدى استعداد السلطة لتحمّل كلفة المواجهة مع شبكات النفوذ. وإذا كان النظام جادًا فعلًا في إنقاذ التعليم، فإن أول اختبار لصدقه هو حماية المسار الإصلاحي، وتمكين الوزيرة من الاستمرار دون مقايضة أو تراجع.

أما إذا تُركت وحيدة في مواجهة لوبيات الإفساد، أو جرى الالتفاف على إجراءاتها تحت ضغط التوازنات، فإن النظام يكون شريكًا مباشرًا في استمرار الانهيار، لا مجرد متفرج عليه. فالتعليم ليس قطاعًا هامشيًا يُدار بمنطق التسويات، بل هو معيار جدية الدولة نفسها.

إن التاريخ لن يسأل من كانت الوزيرة، بل سيسأل: هل امتلك النظام الشجاعة ليختار الإصلاح، أم فضّل سلامة التحالفات على مستقبل الأجيال؟

Similar Posts