من تشخيص الأزمة إلى استعادة مشروع الدولة
ليس الخروج من النفق الذي تعيشه موريتانيا مسألة تغيير وجوه أو تبديل حكومات، بل هو سؤال بناء دولة لم تكتمل شروط نشأتها منذ الاستقلال. فالأزمة، في جوهرها، ليست طارئة ولا عابرة، وإنما بنيوية متجذرة في طريقة تشكل السلطة، وفي طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع.
ائتلاف الحكم: سلطة بلا دولة
تحكم موريتانيا، منذ عقود، صيغة غير معلنة من ائتلاف السلطة، يتكوّن من:
مؤسسة عسكرية تضمن الاستقرار مقابل النفوذ،
ورجال مال راكموا الثروة عبر الصفقات العمومية والتسهيلات الإدارية،
ونخب اجتماعية تقليدية من زعماء قبائل ومشايخ ووجهاء،
وبقايا دولة عميقة تشكل وعيها ووظيفتها في الحقبة الاستعمارية.
هذا الائتلاف لا يحكم بمنطق الدولة الحديثة، بل بمنطق توازن المصالح، حيث تُدار البلاد باعتبارها مجالًا لتقاسم الريع، لا فضاءً لبناء المواطنة.
استقلال بلا قطيعة
حصلت موريتانيا على استقلالها في سياق دولي خاص، فرضته هزيمة القوى الاستعمارية التقليدية بعد الحرب العالمية الثانية، وصعود الولايات المتحدة، واتساع حركات التحرر. لكن هذا الاستقلال كان، في جوهره، استقلالًا إداريًا لا تحرريًا.
لم تُنجَز قطيعة حقيقية مع البنية ما قبل الدولتية، ولم تُبنَ دولة مركزية حديثة كما حصل في تجارب تحرر أخرى. بل جرى استقدام أطر إدارية وعسكرية من الخارج، في ظل نزاعات إقليمية على الكيان الوليد، ما أربك الهوية الوطنية وأضعف الشرعية السياسية للدولة الناشئة.
ديمقراطية وظيفية لا تداولية
في هذا السياق، تحولت الديمقراطية من آلية لتداول السلطة إلى أداة لتثبيت النظام:
انتخابات تُدار بالمال والقبيلة،
استقطاب للزعامات التقليدية بدل تفكيك نفوذها،
وتزوير سياسي للوعي العام عبر خطاب شكلي عن الشرعية والاختيار الشعبي.
ساهم في ذلك تدني الوعي السياسي، وتوظيف الانقسامات الاجتماعية، خصوصًا تلك القائمة على اللون والجهة، كوسيلة أمنية لإضعاف أي تشكل وطني جامع.
لماذا لا تنجح الحلول السهلة؟
التجربة أثبتت أن:
الانقلابات تعيد إنتاج نفس الائتلاف بصيغة أكثر خشونة،
والانتخابات في مجتمع مدجَّن تعيد النخب نفسها،
والرهان على الخارج لا يصنع دولًا مستقلة بل وكلاء،
والخطاب الهوياتي، مهما بدا ثوريًا، يخدم السلطة أكثر مما يهددها.
الطريق الممكن: مسار لا حدث
الخروج من النفق ليس لحظة انفجار، بل مسار تراكمي، يقوم على أربع ركائز:
أولًا: تفكيك الوعي المدجَّن
المعركة الأولى ليست مع القصر ولا الثكنة، بل مع تفسير الواقع. حين يدرك المواطن أن الفقر والظلم ليسا قدَرًا ولا صراع جماعات، بل نتيجة بنية حكم، تبدأ السياسة الحقيقية.
ثانيًا: بناء كتلة وطنية عابرة للهويات
لا دولة دون تحالف اجتماعي يقوم على المواطنة والمصلحة العامة، لا على النسب واللون والجهة. أي مشروع يُبنى على مظلومية أحادية محكوم عليه بالفشل.
ثالثًا: استعادة السياسة من القبيلة والمال
تحويل القبيلة إلى حزب، والمال إلى برنامج، والشيخ إلى وسيط انتخابي، هو جوهر الأزمة. البديل هو تنظيمات مدنية ومهنية مستقلة، تنتزع الحقوق بوصفها حقوق مواطنين لا هبات زعماء.
رابعًا: تحويل الدولة من غنيمة إلى مؤسسة
الهدف ليس إسقاط أشخاص، بل فرض منطق القانون والكفاءة والعدالة في توزيع الثروة، خصوصًا الريعية منها، عبر معارك جزئية ومتراكمة في التعليم والصحة والوظيفة العمومية.
دروس من تجارب مقارنة
غانا: خرجت من دوامة الانقلابات عندما حسمت النخب، بضغط مجتمعي، لصالح بناء مؤسسات مدنية قوية، وربطت الاستقرار بالتنمية لا بالعسكر.
تونس (قبل الانتكاس): نجحت نسبيًا حين وُجد وعي مدني ونقابي مستقل فرض التوازن على السلطة، قبل أن تُجهَض التجربة بفعل هشاشة الاقتصاد وعودة الدولة العميقة.
رواندا (مع التحفظ): تجاوزت التفكك الهوياتي عبر دولة مركزية صارمة أعادت تعريف الانتماء الوطني، وإن كان ذلك على حساب التعدد السياسي.
القاسم المشترك في هذه التجارب هو أن الوعي والتنظيم المدني سبقا الإصلاح السياسي، لا العكس.
خاتمة
موريتانيا لن تخرج من النفق بانقلاب ولا بانتخابات شكلية، بل حين يتكوّن وعي وطني نقدي، يُنتج كتلة اجتماعية عابرة للانقسامات، قادرة على انتزاع السياسة من القبيلة والمال، وتحويل الدولة من غنيمة إلى مؤسسة.
ذلك مسار بطيء، لكنه وحده الذي لا يعيد إنتاج النفق بأسماء جديدة.
