الوعي والاستبداد البنيوي في موريتانيا مقاربة سوسيولوجية في تشكّل الخضوع وتطبيع الهيمنة

author
0 minutes, 0 seconds Read

 

مقدمة: مفارقة الوعي في المجتمع الموريتاني

أخبار اليوم.    يلاحظ المتابع للحياة العامة في موريتانيا مفارقة لافتة: إدراك واسع لاختلالات الواقع السياسي والاجتماعي، يقابله عجز مزمن عن تحويل هذا الإدراك إلى فعل جماعي منظَّم. تُقال الحقيقة في المجالس الخاصة، وتُهمَس بها في الفضاءات الضيقة، بينما يُعاد إنتاج خطاب رسمي أو شبه رسمي في المجال العام، يُضفي الشرعية على أوضاع يدرك معظم الفاعلين هشاشتها وعدم عدالتها. وتُستقبل الوعود السياسية المتكررة – رغم تاريخها الطويل من الإخفاق – بنوع من القبول الذي لا يعكس ثقة حقيقية بقدر ما يعكس استسلامًا عمليًا لمنطق «الممكن الأدنى».

تنطلق هذه الدراسة من إشكالية مركزية: كيف تشكّل في موريتانيا نمط من الاستبداد لا يُمارَس فقط من أعلى، بل يُعاد إنتاجه اجتماعيًا، ويُقبَل – قسرًا – من قِبل غالبية مغلوبة على أمرها؟
وتفترض أن ما نعيشه ليس استبداد شخص أو نظام فحسب، بل استبداد بنيوي تشكّل تاريخيًا، وتغذّى بالجغرافيا، وأُعيد إنتاجه عبر الاستعمار، ثم استُبطن في مرحلة ما بعد الاستقلال بواسطة الدولة العسكرية.

أولًا: الإطار النظري – الاستبداد البنيوي وإنتاج الخضوع

1. من الاستبداد السياسي إلى الاستبداد الاجتماعي

لا يكفي لفهم الحالة الموريتانية اعتماد تعريف الاستبداد بوصفه احتكارًا للسلطة السياسية أو قمعًا مباشرًا للحريات. فوفق المقاربات السوسيولوجية الحديثة، خصوصًا عند بورديو وفوكو، تُمارَس الهيمنة أيضًا عبر العنف الرمزي: أي فرض أنماط تفكير وتمثلات تجعل النظام القائم يبدو طبيعيًا، أو أقل سوءًا من البدائل المتخيَّلة.

في هذا الإطار، يصبح الخضوع ليس نتيجة خوف آني فقط، بل نتيجة تاريخ طويل من التكيّف، حيث يُعاد ضبط سقف التوقعات الاجتماعية والسياسية باستمرار.

2. الوعي بين الإدراك والعجز

يُظهر المجتمع الموريتاني أن الوعي لا يعني بالضرورة القدرة على التغيير. فالكثير من الأفراد يمتلكون إدراكًا نقديًا نسبيًا لواقعهم، لكن هذا الإدراك يظل معطَّلًا في غياب شروط اجتماعية وسياسية تسمح بتحويله إلى ممارسة. وهكذا ينفصل الوعي عن الفعل، ويتحوّل النقد إلى طقس كلامي لا يهدد البنية.

ثانيًا: الجذور التاريخية للاستبداد البنيوي في موريتانيا

1. الجغرافيا الصحراوية وغياب التنظيم المركزي

تشكّل المجتمع الموريتاني تاريخيًا في فضاء صحراوي فرض التشتت، والتنقل، وهشاشة الموارد. هذا الواقع لم يسمح بنشوء سلطة مركزية مستقرة بالمعنى المؤسسي، بل أفرز أشكال تنظيم تقليدية (قبلية، فئوية، زعامات محلية) أدّت وظيفة الضبط الاجتماعي، لكنها لم تُنتج دولة بالمعنى الحديث.

هذا الغياب لم يكن حياديًا؛ إذ خلق قابلية تاريخية لظهور سلطات فوقية لاحقًا دون مقاومة مؤسسية حقيقية، طالما حافظت على توازنات البنى التقليدية أو أعادت توظيفها.

2. الاستعمار الفرنسي والتحالف مع النخب المحلية

حين دخل الاستعمار الفرنسي، لم يسعَ إلى تفكيك البنى التقليدية، بل تحالف مع قوى محلية ذات طابع شبه أرستقراطي، ومنحها امتيازات اقتصادية ورمزية غير مسبوقة. هذا التحالف سمح بتكريس نمط جديد من الهيمنة: استغلال داخلي محمي خارجيًا.

وبذلك، أصبحت فئات من المجتمع تستفيد من النظام الجديد دون أن تتحمل كلفة العنف أو المخاطرة، بينما جرى تطبيع التفاوت الاجتماعي والاقتصادي باعتباره امتدادًا طبيعيًا “للتقاليد”.

3. ما بعد الاستقلال: الدولة العسكرية واستبطان منطق المستعمِر

لم يؤدّ الاستقلال إلى قطيعة بنيوية مع هذا المسار، بل ورثت المؤسسة العسكرية منطق السيطرة والإدارة الاستعمارية، مع فارق أساسي: تحوّل العنف من كونه خارجيًا إلى داخلي، ومن كونه صريحًا إلى كونه أكثر نعومة.

حافظت الدولة على شكلها القانوني والمؤسساتي، لكنها أفرغته من مضمونه التشاركي، بحيث أصبحت الدولة كيانًا قائمًا بذاته أكثر من كونها تعبيرًا عن المجتمع. وبهذا، أُعيد إنتاج الاستبداد لا كحدث سياسي، بل كنمط إدارة يومي.

ثالثًا: آليات إعادة إنتاج الخضوع في المجتمع الموريتاني

1. التطبيع مع الصمت

يُكافأ الصمت اجتماعيًا، لا بالضرورة عبر الامتيازات، بل عبر السلامة. في المقابل، يُدفع النقد إلى الهامش، ويُنظر إليه بوصفه تهديدًا للاستقرار، لا مساهمة في الإصلاح. ومع الوقت، يتعلّم الأفراد أن الاندماج يمر عبر التكيّف، لا عبر الاعتراض.

2. الخوف غير المعلن

الخوف في موريتانيا نادرًا ما يكون فظًّا أو دمويًا، لكنه حاضر بوصفه منظّمًا اجتماعيًا: خوف من الإقصاء، من فقدان الفرص، من الوصم، من العزلة. وهو خوف كافٍ لإبقاء الوعي في مستوى الإدراك الصامت.

3. قبول الممكن الأدنى

تُقدَّم الأوضاع القائمة بوصفها أفضل الممكن، ويُصوَّر أي بديل جذري كفوضى محتملة. وبهذا، يُعاد تعريف العقلانية السياسية باعتبارها قبول الحد الأدنى، لا السعي إلى العدالة أو الكرامة.

رابعًا: الوعي كإمكانية تحوّل مشروطة

لا يمكن تجاوز هذا النمط من الاستبداد عبر الوعي الفردي وحده، كما لا يمكن عبر تغييرات شكلية في قمة السلطة. فالتحول يفترض التقاء شرطين:

أفراد قادرين على تجاوز الخوف الداخلي،

وبنية اجتماعية تسمح بتحويل هذا الوعي إلى ممارسة جماعية.

في غياب أحد الشرطين، يظل الوعي مجرد تجربة شخصية معزولة، أشبه بشعلة صغيرة تضيء لحظة ثم تنطفئ. أما حين يتكامل الشرطان، يصبح الوعي قوة تاريخية قادرة على كسر حلقة إعادة الإنتاج.

خاتمة: تفكيك الاستبداد بوصفه شرطًا لإعادة بناء الدولة

إن أخطر ما في الاستبداد البنيوي في موريتانيا أنه لم يعد يُمارَس فقط كسلطة، بل كـ عقل جمعي مُطَبَّع. ومن هنا، فإن مواجهته لا تبدأ بإسقاط الأشخاص، بل بتفكيك الشروط التاريخية والاجتماعية التي جعلت الخضوع يبدو طبيعيًا، والتغيير يبدو مغامرة غير محسوبة.

فالوعي، حين يتحول من إدراك خافت إلى ممارسة اجتماعية، لا يُحدث القطيعة دفعة واحدة، لكنه يفتح ثغرة في جدار التطبيع، وتلك – في السياق الموريتاني – بداية كل تحوّل ممكن.

Similar Posts