أخبار اليوم. تواجه موريتانيا جملة من المخاطر المتشابكة التي تتراوح بين تهديدات خارجية تمس البنية الديمغرافية والهوية الوطنية، وأخرى داخلية ذات طبيعة بنيوية ترتبط بانهيار المنظومة التربوية وارتفاع نسب الرسوب والتسرب. هذه الورقة تسعى إلى تحليل أبرز تلك المخاطر، مع التوقف عند دور الإصلاح التربوي الراهن، وتبيان أهميته باعتباره خيارًا استراتيجيًا لا غنى عنه لاستدامة الاستقرار الاجتماعي والسياسي.
أولاً: مقدمة
تعيش موريتانيا لحظة تاريخية دقيقة تتقاطع فيها عوامل داخلية وخارجية تجعل الدولة أمام ضرورة إعادة تقييم بنيتها التربوية والاجتماعية. فالتغيرات الديمغرافية، وتزايد الهجرة، وتنامي البطالة، وتدهور جودة التعليم، جميعها مؤشرات تنذر بزعزعة التوازن الاجتماعي. وفي هذا السياق، يصبح إصلاح التعليم أولوية وجودية تتجاوز كونه سياسة قطاعية إلى كونه أداة استراتيجية لحماية الدولة وتعزيز صمودها.
ثانيًا: المخاطر الديمغرافية والهجرة كعامل تهديد للتماسك الوطني
تشهد موريتانيا في السنوات الأخيرة موجة هجرة لافتة، تتداخل مع أجندات سياسية وتاريخية لبعض الفاعلين الإقليميين الذين سعوا — في مراحل معينة — إلى إعادة تشكيل البنية السكانية للبلاد بطرق مباشرة وغير مباشرة. وقد أسهمت تجارب العنف في دول الجوار، بما في ذلك الاستهداف الممنهج لبعض المكونات الاجتماعية، في تكريس مخاوف حقيقية من استغلال الهجرة لإحداث تحولات ديمغرافية تخدم مشاريع تتعارض مع استقرار الدولة.
إن هذه التحولات لا يمكن قراءتها بمعزل عن هشاشة الداخل، وضعف قدرته على امتصاص الصدمات الخارجية، وهو ما يجعل تقوية الجبهة الداخلية شرطًا للحد من تأثير تلك المخاطر.
ثالثًا: أزمة التعليم وتداعياتها الاجتماعية
يمثل الانهيار المتسارع للمنظومة التربوية أكبر تهديد بنيوي تواجهه الدولة. إذ تشير المؤشرات السنوية إلى رسوب آلاف التلاميذ في امتحان البكالوريا، مما يفرز سنويًا كتلة شبابية بلا تأهيل علمي أو مهني.
1. البطالة والانحراف كبدائل قسرية
في ظل محدودية فرص العمل، وضعف برامج التكوين المهني، يجد الشباب أنفسهم أمام مسارات خطرة تشمل:
الانضمام إلى شبكات الإدمان؛
الانخراط في الجريمة المنظمة؛
أو البحث اليائس عن الهجرة غير النظامية.
هذه الظواهر تمثل بيئة خصبة لعدم الاستقرار الاجتماعي، وتضعف قدرة الدولة على ضبط المجال العام.
2. سوء توجيه الموارد العامة
تتجه الموارد المالية في كثير من الأحيان إلى مشاريع غير ذات أولوية – من قبيل مشاريع تجميل حضري أو إنشاء منشآت رمزية – بدل توجيهها نحو دعم قطاع التعليم وتحفيز المدرسين ورفع مستوى التكوين.
رابعًا: الإصلاح التربوي الراهن: المقومات والإكراهات
1. الدور القيادي للوزارة
أظهرت وزارة التربية الوطنية خلال العامين الماضيين إرادة واضحة في إعادة تنظيم القطاع، من خلال:
ضبط التحويلات الإدارية التي كانت محاطة سابقًا بممارسات غير شفافة؛
تسوية ملف الترقيات بما يقلص الظلم الوظيفي؛
محاولة الحد من التوسع العشوائي للخريطة المدرسية الذي أثقل القطاع بمدارس لا تتوفر لها الموارد البشرية.
هذه الخطوات تمثل مقدمات إصلاحية جادة، خصوصًا في ظل الإرث الثقيل الذي يشمل شبكات فساد راسخة، وممارسات إدارية متوارثة، وضغوطًا ناتجة عن المحاصصة القبلية والاثنية.
2. الإكراهات المؤسسية
يواجه الإصلاح تحديات عميقة، من أبرزها:
القيود المفروضة على القرار الوزاري من قبل مستويات سلطوية موازية؛
التواطؤ المحلي الذي يفرغ بعض القرارات من مضمونها؛
حماية غير رسمية لبعض الموظفين بسبب روابط اجتماعية أو سياسية؛
ضعف الرقابة الميدانية نتيجة اتساع الخريطة المدرسية.
3. أهمية النزاهة والكفاءة في القيادة
يُسجَّل للقيادة الحالية للقطاع أنها لم تتكون داخل شبكات الفساد التقليدية، وأن مسارها المهني قائم على الكفاءة والاجتهاد الذاتي. هذه الخصائص تمنح جهود الإصلاح مصداقية إضافية، وتفتح المجال لتأسيس نموذج جديد للإدارة التربوية.
خامسًا: إصلاح التعليم كخيار وجودي
تدل التجارب العالمية على أن التعليم يمثل الخط الدفاعي الأول عن الدولة الحديثة. فالمجتمعات التي تفشل في إنتاج نظام تربوي فعال تصبح أكثر هشاشة أمام الضغوط الخارجية، وأكثر عرضة للتطرف والجريمة والهجرة.
وعليه، فإن الاستثمار في التعليم ليس مسألة تنموية فحسب، بل هو شرط للحفاظ على الهوية الوطنية، وصون السلم الاجتماعي، وحماية الدولة من التفكك الداخلي.
سادسًا: خاتمة
إن موريتانيا اليوم أمام مفترق طرق: إما المضي في إصلاح تربوي شامل يعالج الأسباب البنيوية للاختلالات، ويعزز قدرة الدولة على مواجهة المخاطر الخارجية والداخلية، وإما الاستمرار في مسار يعمق الهشاشة ويضاعف التحديات. إن الإرادة الإصلاحية الحالية تمثل فرصة ثمينة ينبغي دعمها وتوفير شروط نجاحها، لأن مستقبل البلاد مرهون بجودة المدرسة التي تصنع مواطني الغد.
