مقاربة تحليلية في تداخل المسارات الرقابية والصراعات السياسية في موريتانيا
ملخص
تبحث هذه الدراسة في طبيعة المسار الموريتاني لمحاربة الفساد، من خلال تحليل التوتر القائم بين الإرادة السياسية المعلنة لتطهير الإدارة، وبين الممارسات التي تُظهر تسييس بعض الملفات أو توجيهها لخدمة صراعات داخل دوائر القرار. وتتخذ الدراسة من هيئة البريد (موريبوست) نموذجاً تحليلياً لفهم التداخل بين الجهد الرقابي والسياق السياسي، بهدف تقييم مدى استقلالية المؤسسات الرقابية وقدرتها على ممارسة دورها دون تأثير.
1. مقدمة
تُعد مكافحة الفساد ركيزة مركزية في أي مشروع إصلاحي يسعى لإرساء دولة القانون والمؤسسات. وقد تبنّت القيادة الموريتانية خطاباً صريحاً في هذا الاتجاه، مؤكدة ضرورة منع استغلال محاربة الفساد كأداة انتقام أو تصفية حسابات. غير أنّ التطبيق العملي لهذا التوجه كشف عن تحديات بنيوية تجعل من الضروري إعادة تقييم مدى انسجام الجهد الرقابي مع المعايير المهنية والحياد المؤسسي.
فنشر تقرير محكمة الحسابات وما تلاه من تبرئة غالبية الأسماء الواردة فيه، وتركّز الاهتمام على مؤسسة واحدة تقريباً، كلها مؤشرات تستدعي تحليلاً عميقاً لمآلات الحملة وتقاطعاتها مع صراعات النفوذ داخل السلطة.
2. السياق العام لحملة مكافحة الفساد
تتطلب مكافحة الفساد توافر ثلاثة شروط أساسية:
1. استقلالية أجهزة الرقابة،
2. وضوح المعايير الإجرائية،
3. تحييد العمل الرقابي عن تأثيرات الصراعات السياسية.
ورغم إدراك رئيس الجمهورية لهذه الشروط، وتحذيره من خطورة “ركوب موجة مكافحة الفساد للانتقام”، إلا أنّ أداء بعض الدوائر التنفيذية يعكس وجود ثغرات في التطبيق، تجعل المسار عرضة للتأويل السياسي، وتضعف الثقة العامة في نزاهة العملية.
3. حالة موريبوست: بين التفتيش المتكرر وغياب الاختلالات المثبتة
تشكل هيئة البريد (موريبوست) نموذجاً معبّراً لإشكالية تداخل المسارات الرقابية مع السياق السياسي. فمنذ إسناد إدارتها للسيد علي ولد عيسى، خضعت المؤسسة لعدة تفتيشات نفذتها المفتشية العامة للدولة، وقد أجمعت تلك التقارير على عدم وجود اختلالات مالية أو إدارية جوهرية تستوجب المساءلة أو اتخاذ إجراءات تأديبية.
ورغم وضوح هذه النتائج، عادت محكمة الحسابات لفتح ملف المؤسسة مجدداً دون تقديم معطيات رقابية جديدة تبرر إعادة التفتيش، الأمر الذي يثير تساؤلات حول مدى استناد العملية إلى الحاجة المهنية أو الضرورة القانونية، مقابل إمكانية تأثرها باصطفافات سياسية قائمة، خاصة في ظل تاريخ خصومة معروفة بين المدير العام للمؤسسة وبعض الأطراف النافذة داخل السلطة التنفيذية.
ويبرز هذا النموذج خللاً بنيوياً يتمثل في إمكانية استخدام العمل الرقابي بطريقة انتقائية، بما قد يؤدي إلى تقويض ثقة الرأي العام في حياد مؤسسات التفتيش.
4. محدودية تعريف الفساد: قراءة في العمق البنيوي
4.1. التركيز على الفساد المالي
تركّز أجهزة الرقابة في الغالب على التسيير المالي والاختلالات المحاسبية. وعلى الرغم من أهمية هذا الجانب، إلا أنه يمثل مستوى واحداً فقط من مستويات الفساد، وقد يكون الأقل تأثيراً على المدى الطويل مقارنة بالفساد البنيوي.
4.2. الفساد البنيوي والتعيين خارج المساطر
يتجلى الخلل الأكثر خطورة في التعيين خارج المساطر القانونية للوظيفة العمومية، وفي جلب أشخاص بلا تكوين أو خبرة، مما يجعل المنصب العمومي أداة لتوسيع شبكات النفوذ أو إعادة تشكيلها. وهذا النوع من الفساد – رغم أنه لا يظهر في تقارير مالية – يؤدي إلى إضعاف الدولة وتقويض احترافية الإدارة.
4.3. الزبونية وضعف المهنية
أسهمت التعيينات القائمة على الولاء بدلاً من الكفاءة في:
تآكل المهنية داخل الجهاز الإداري،
إضعاف منظومات الرقابة،
تراجع الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة.
وهو ما يتناقض جذرياً مع الخطاب الإصلاحي الذي يرفع شعار محاربة القبلية والزبونية.
5. اختلالات داخل دوائر القرار: استهداف غير مباشر وواقع التسريبات
5.1. استهداف مجموعات بعينها
ظهرت في الفترة الأخيرة ممارسات توحي باستهداف غير معلن لبعض الضباط أو المسؤولين المنتمين إلى مجموعات اجتماعية أو مناطق محددة. وهذا النمط يخلق بيئة من الشك داخل مؤسسات حساسة، ويهدد بتقويض وحدة الدولة.
5.2. التسريبات وإرباك المجال السياسي
أدت التسريبات المتكررة لمعلومات حساسة إلى إضعاف هيبة المؤسسات، وعكست وجود صراع خفي على التأثير داخل دوائر القرار. كما ساهمت في تأجيج مشاعر التخندق، خصوصاً حين يشعر بعض المواطنين أن أبناءهم مستهدفون، ما يعزز الانقسام بدل تقليصه.
5.3. أثر ذلك على خطاب الرئيس
حين تتزامن حملة رسمية لمحاربة القبلية مع ممارسات ميدانية تخلق إحساساً بالاستهداف، فإن الخطاب الإصلاحي يفقد المعنى، ويصبح عرضة للتشكيك الشعبي، بل وللاستغلال السياسي.
6. نحو رؤية إصلاحية جديدة
6.1. تحييد أجهزة الرقابة
يتطلب بناء ثقة عامة في مكافحة الفساد ضمان استقلال مؤسسات التفتيش مالياً وإدارياً، وإبعادها كلياً عن دوائر النفوذ السياسي.
6.2. إصلاح منظومة التعيينات
لا بد من تعزيز دور الوظيفة العمومية كمسار مهني منضبط، ووقف التعيينات القائمة على الولاء، لما لها من أثر مدمر على كفاءة الجهاز الإداري.
6.3. معالجة بؤر الصراع داخل السلطة
من أجل نجاح أي مشروع إصلاحي، يجب تجفيف منابع التوتر داخل دوائر القرار، ووضع حد لتوظيف النفوذ في توجيه القرارات الكبرى.
6.4. تعزيز الثقة بين الرئاسة والمؤسسات
بناء علاقة مؤسسية تقوم على المهنية والشفافية، يضمن فاعلية القرار السياسي، ويمنع استخدام أجهزة الدولة في الصراعات الجانبية.
7. خاتمة
يُظهر التحليل أنّ مكافحة الفساد في موريتانيا تعيش مفترق طرق بين مشروع إصلاحي حقيقي وإمكانات انحرافه نحو منطق التصفية السياسية. وإن كانت الإرادة السياسية المعلنة واضحة، فإنّ التطبيق يظل عرضة للتشويش بفعل اختلالات بنيوية، أبرزها التعيينات الزبونية، الصراعات داخل دوائر القرار، والتفتيش الانتقائي.
إنّ إعادة تأسيس الدولة تقتضي منظومة إصلاحية شاملة تُعيد ضبط العلاقة بين العمل الرقابي والقرار السياسي، وتضمن حياد المؤسسات، وتحمي شعار مكافحة الفساد من أي توظيف يعيد إنتاج الماضي بوجوه جديدة.
