بين القرابة والعدالة الوظيفية: قراءة في إشكالية المحسوبية وحدود الإنصاف

author
0 minutes, 0 seconds Read

 

أخباراليوم.     تعدّ العدالة الوظيفية أحد المؤشرات الأساسية على نجاعة المؤسسات العامة وقدرتها على ترسيخ الثقة بين العاملين فيها. فكلما شعر الموظف بأن جهده هو معيار التقدير، وأن الكفاءة والنزاهة هما طريق الترقّي، ازدادت فعالية الإدارة وارتفعت مستويات الانتماء والالتزام. غير أن هذا المبدأ يتعرض في عدد من السياقات إلى اختلالات حادّة، أبرزها ما يرتبط بالمحسوبية واستغلال شبكات القرب العائلي، وهو ما يشكل تحدّيًا أخلاقيًا وإداريًا معًا.

يمكن النظر إلى المحسوبية بوصفها نمطًا من أنماط الانحراف الإداري، تُستخدم فيه القرابة أو الروابط الاجتماعية كمعيار للانتفاع، بدلًا من الكفاءة أو الأقدمية أو نظافة السيرة. غير أن الإشكال لا يقف عند حدود منح غير المستحق ما لا يستحقه، بل يمتد إلى حالة مقابلة تبدو للوهلة الأولى نابعة من الحرص على النزاهة: الخوف المبالغ فيه من اتهام المسؤول بمحاباة أقاربه، حتى لو كان هؤلاء الأقارب يمتلكون الشروط الموضوعية للترقية أو التعيين.

وتظهر هذه الإشكالية بوضوح في حالات يظل فيها موظفون أكفاء، ذوو أقدمية راسخة وسجل مهني نظيف، محاصرين لسنوات رغم أحقيتهم بالترقية، بينما يتجاوزهم آخرون لاعتبارات قرابية أو سياسية. وتتخذ المفارقة بعدًا أكثر تعقيدًا حين يُعيَّن قريبٌ لأحد هؤلاء الموظفين وزيرًا على القطاع ذاته؛ فبدل أن تُنصفه الكفاءة، تصبح قرابته سببًا في إقصائه تجنبًا للوشاية أو التأويلات الاجتماعية.
وهنا يتبدّى السؤال المحوري: هل تُبنى النزاهة على إقصاء مستحقين فقط لأنهم أقارب؟ أم تُبنى على تحكيم معايير موضوعية لا تميّز بين قريب وبعيد؟

تاريخ الإدارة العربية يزخر بأمثلة تظهر هذه الازدواجية. ففي تسعينيات القرن الماضي، واجه أحد كبار المسؤولين اتهامًا بأنه وزّع مساكن تابعة للدولة على أقاربه. وعندما استجوبه رئيس الدولة أكد المسؤول صحة الواقعة، لكنه قال جملة تختزل الإشكال كله: «إن وجدتم واحدًا منهم أخذ ما لا يستحق فأنا راضٍ بأقصى عقاب». كانت تلك الإجابة ـ على بساطتها ـ تعبيرًا دقيقًا عن الفارق بين المحسوبية والإنصاف؛ فالأولى تمنح الامتياز لغير المستحق، أما الثانية فتنزل كل فرد منزلته، قريبًا كان أو بعيدًا، ما دام معيار الحكم هو الجدارة.

إن الظلم لا يقع فقط عندما يُمنح غير المستحق حقًا لا يستحقه، بل يقع أيضًا عندما يُحرم المستحق من حقه بدافع الحذر الاجتماعي أو خشية الاتهام. وفي الحالتين، تكون النتيجة واحدة: اهتزاز ثقة العاملين في منظومة الترقيات، وانكماش روح المبادرة، وتراجع الشعور بالعدالة المهنية.

ولمواجهة هذه المعضلة، تقتضي الحوكمة الرشيدة التمييز الواضح بين القرابة بوصفها رابطة اجتماعية والكفاءة بوصفها معيارًا مؤسسيًا. فالمسؤول ليس مطالبًا بمعاقبة أقاربه لأنهم أقاربه، ولا بإعفائهم من حقوق يستحقونها، ولا بمنحهم امتيازًا لا يستحقونه. بل هو مطالب فقط بتطبيق معيار واحد، شفاف وقابل للقياس، على الجميع دون استثناء.

إن بناء إدارة قوية لا يتحقق بإقصاء الأقارب، ولا بإغراق المؤسسات بالمحاباة، بل بتحكيم مبدأ الكفاءة، وتفعيل آليات التقييم الموضوعي، وتوفير ضمانات تمنع التضارب، وتمنح في الوقت ذاته المستحق حقه دون خوف أو تردد.

وعند هذه النقطة يتضح أن الإشكال ليس في وجود قرابة، بل في غياب المعايير.
وليس في وجود الوزير أو المدير القريب، بل في غياب آليات تحميه وتحمي الموظفين معه من التأويلات والتهم الجاهزة.
فالعدالة ليست حيادًا جافًا يخشى من ظله، ولا جرأة عمياء تتجاوز الأنظمة، بل هي ميزانٌ يستوي فيه الجميع، تُرفع فيه الكفاءة فوق الانتماء، ويُحتكَم فيه إلى سجلات العمل لا إلى شجرة العائلة.

وهكذا، فإن مواجهة المحسوبية لا تعني إدانة القربى، بل تعني تحصين القرار الإداري بالمعايير، وتحريره من الضغوط الاجتماعية، وضمان أن يبقى لكل ذي حق حقه، سواء أكان قريبًا أو بعيدًا. فبذلك وحده تستعيد المؤسسات ثقة العاملين، ويتحول المنصب العام من مجال للانتفاع إلى مجال للخدمة والإنتاج، ويصبح اسم الموظف مرتبطًا بعمله لا بأقاربه، وبجدارته لا بنسبه.

Similar Posts