أخباراليوم. تعدّ مسألة إصلاح الإدارة العمومية في موريتانيا من أكثر القضايا إلحاحًا في النقاش العمومي، نظرًا لما تراكم خلال العقود الماضية من ممارسات تُضعف دولة القانون وتشوّه قواعد التسيير. وبينما عبّر الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، منذ وصوله إلى السلطة، عن التزام واضح بإرساء نهج جديد قوامه الإنصاف والعدالة في الولوج إلى الوظائف والمصالح العمومية، فقد برزت في السنوات الأخيرة على المستوى المحلي ممارسات تثير الكثير من علامات الاستفهام حول كيفية تنفيذ هذا البرنامج من طرف بعض الذين أوكلت إليهم مهمة تنزيله ومتابعته.
أولًا: تعيينات تُدار بمنطق الفخذ والولاء بدل معيار الكفاءة
تسجل عدة مقاطعات وولايات حالات تعيين أو تعاقد مع شباب ينتمون إلى نفس الفخذيات والبطون القبلية، في سياق يبدو فيه أن الهدف غير المعلن هو توزيع المناصب داخل شبكات القرابة أو استثمارها في بناء ولاءات انتخابية، بدل أن تكون أداة لترقية الأداء العمومي.
ورغم أن تشغيل الشباب المؤهل يعد مطلبًا مشروعًا، فإن الإشكال يكمن في تحويل التعيين إلى أداة سياسية، خصوصًا عندما يتم استبعاد أشخاص يمتازون بالكفاءة والنزاهة والخبرة، ومن نفس الوسط السكاني، فقط لأنهم لا يملكون موارد مالية أو شبكات زبونية تسمح لهم بالانخراط في سوق شراء الأصوات.
بهذا المعنى، تصبح التعيينات وسيلة لإعادة إنتاج نفس البنية التقليدية التي يعلن الخطاب الرسمي تجاوزها، لا خطوة في مسار إصلاحها.
ثانيًا: تعيينات في مجلس الوزراء خارج المسار الوظيفي الطبيعي
يتعزز هذا الاختلال حين يُلاحظ أن بعض الشباب الذين عُيّنوا بقرارات من مجلس الوزراء لا ينتمون أصلًا إلى الوظيفة العمومية، ولم يخضعوا للمسارات المهنية التي يُفترض أن تشكل قاعدة الولوج إلى المناصب العليا في الدولة. ورغم امتلاكهم لشهادات جامعية، فإن تجاوز المسار الوظيفي الطبيعي يطرح سؤالًا جوهريًا حول المعايير المعتمدة، خاصة عندما يتم ذلك على حساب كوادر خدمت لسنوات في القطاع العمومي وتراكمت لديها خبرة مؤسسية حقيقية.
ثالثًا: المفارقة البنيوية — حين يتحول “ابن الدولة” إلى أسوأ من ابن القبيلة
الطامة الكبرى، والتي كشفت عنها تجارب عديدة ولا سيما في ولاية لبراكنة، هي أن بعض الأفراد الذين يصلون إلى مواقع المسؤولية ليس عبر النفوذ القبلي ولا عبر شبكات تقليدية، وإنما بجهد شخصي أو فرصة مهنية أو ثقة إدارية، يُظهرون في بداية مسارهم قدرة وكفاءة متميزة كان يمكن التعويل عليها في تحديث الإدارة.
غير أنّ المفارقة الصادمة هي أن بعض هؤلاء يتحوّلون بعد فترة قصيرة إلى نسخة أسوأ من نماذج الزبونية القبلية نفسها. فبدل أن يكونوا “أبناء الدولة” الذين يقطعون مع منطق الولاءات الضيقة، يُنشئون حولهم قبيلة بديلة: دائرة صغيرة من المنتفعين، ومحيطًا مصطنعًا للنفوذ، وشبكة جديدة تقدّم الولاء على الكفاءة، تمامًا كما كانت تفعل البنى التقليدية التي خرجوا منها أو لم يكونوا جزءًا منها أصلًا.
وبذلك تتحول الوظيفة العمومية، التي كان يفترض أن تكون مساحة للحياد المهني، إلى ملكية شخصية، ويصبح المنصب العمومي رافعة لبناء نفوذ مخصص، لا لبناء مؤسسات.
رابعًا: تمجيد الأشخاص ونسبة مشاريع الدولة إليهم
تنتج عن هذا الوضع ممارسات أخرى لا تقل خطورة، أبرزها إجبار السكان —ضمنيًا أو مباشرة— على تمجيد أشخاص بعينهم، وتقديمهم كأصحاب فضل في تحقيق مشاريع هي في الأصل ممولة من ميزانية الدولة وموجهة لكل المواطنين.
هذه الثقافة تعمّق شخصنة السلطة، وتحول التنمية إلى هبة شخصية بدل كونها حقًا عموميًا، وتضعف الثقة بين المواطنين والإدارة.
خامسًا: بين خطاب الإصلاح وتناقض الممارسة
يُظهر تحليل هذه الظواهر أن الخلل لا يكمن في جوهر برنامج “تعهداتي” ذاته، فقد حمل البرنامج رؤية واضحة لبناء إدارة مهنية ونزيهة.
الاختلال الحقيقي يوجد في المستوى التنفيذي المحلي؛ حيث ما زالت بعض الأطر والمكلفين بالتنفيذ يفكرون بعقلية ما قبل الدولة الحديثة، ويُخضعون الوظائف العمومية لمنطق النفوذ التقليدي أو النفوذ المستحدث، بدل أن يجعلوها أداة لتحسين حياة السكان.
سادسًا: توصيات لإعادة الاعتبار للحياد المهني
لمعالجة هذه الاختلالات، يمكن اقتراح جملة من الإجراءات:
1. إرساء معايير شفافة للتعيين والتعاقد ونشرها علنًا في كل ولاية ومقاطعة.
2. إخضاع المسؤولين المحليين لتقييمات مركزية منتظمة تربط الأداء بالمحاسبة.
3. حماية الكفاءات المحلية من الإقصاء عبر مساطر تنافسية شفافة.
4. منع نسبة الإنجازات العمومية إلى أفراد عبر قرار إداري واضح.
5. إشراك المجتمع المدني في الرقابة المحلية للحد من شبكات النفوذ غير الرسمية.
خاتمة
إنّ أخطر ما يهدد مشروع الإصلاح في موريتانيا ليس نقص الموارد ولا محدودية الكفاءات، بل استمرار ثقافة النفوذ الشخصي في قلب الإدارة المحلية، سواء جاء هذا النفوذ من القبيلة أو من “قبيلة بديلة” تستحدثها الوظيفة العمومية نفسها.
فالإدارة لا يمكن إصلاحها ما لم يتحول المنصب العمومي إلى وظيفة لخدمة الناس، لا إلى أداة لخلق الولاءات، ولا إلى وسيلة لتعويض غياب النفوذ التقليدي بنفوذ شخصي موازٍ.
