أخبار اليوم. يعيش بلد لا يتجاوز عدد سكانه أربعة ملايين وخمسمائة نسمة في فضاء جغرافي شديد الحساسية، تحدّه دول بعضها سبق أن عبّر عن أطماع صريحة في حوزته الترابية، وبعضها الآخر يحمل عداءً كامناً يتجلى في محطات مختلفة. وإلى جانب هذا الوضع الحدودي المعقد، يحتل البلد موقعاً استراتيجياً قريباً من أوروبا، وهو ما يجعله حلماً للعديد من الأفارقة الباحثين عن العبور. كما يمتلك ثروات طبيعية بدأت مرحلة استغلالها، وتركيبة سكانية متداخلة قد تُغري الخصوم بمحاولات زرع الشقاق، أو دفع البلد—ولو من بعيد—نحو حالة استقطاب أو صدام أهلي.
هذا الوضع، وإن كان محفوفاً بالمخاطر، إلا أن تاريخ الشعب يشهد له بالمسالمة والانفتاح ونشر الإسلام عبر القرون. ولا تزال الدولة تمنح الإقامة المجانية لخمسة آلاف من طلاب العلم الشرعي الوافدين، وهو خيار يعكس بُعداً دعوياً وحضارياً يمكن تحويله إلى قوة ناعمة فعّالة. وقد اقترحنا، في سياق سابق، استئناف هذا الدور عبر تحيين المدارس الدينية في الدول الإفريقية المجاورة، وإنشاء معاهد ومحاظر ممولة على الشريط الحدودي لاستقبال طلاب إفريقيا في إطار منظم ومسؤول.
إلا أن البلد، بهذه الخصائص، يبقى في الوقت ذاته عرضة لتهديدات متصاعدة:
الهجرة غير المنظمة، شبكات التهريب، الجريمة العابرة للحدود، الجريمة السيبرانية، والتنافس الدولي والإقليمي على المجال الحيوي. كما أن الأجهزة الأمنية—بما في ذلك خفر السواحل والسلطات الحدودية—تحتاج إلى جرعة متجددة من التكوين المدني، بما يعزز الوطنية، ويعمّق التربية المدنية، ويرفع منسوب الاحترافية.
وفي هذا السياق، كشف خطاب وزير الداخلية أمام البرلمان عن حصافة وحيطة ووعي عميق بالمخاطر، رغم أن طبيعة اللحظة لم تكن تسمح بالكشف عن التفاصيل كافة. بناءً على هذه القراءة، يمكن تحديد حزمة أولويات وتدابير تحفظ البلد من منزلقات المرحلة:
أولاً: ضبط الحدود بمنهج “الأمن الشامل”
لم تعد الحدود في العالم المعاصر شأناً أمنياً صرفاً، بل أصبحت مجالاً يتقاطع فيه الأمني بالإنساني، والسياسي بالاقتصادي.
ولذا فإن ضبطها يتطلب:
تطوير بنيات المراقبة التقنية وتحديثها،
إنشاء قواعد بيانات مشتركة بين الشرطة، والجمارك، وخفر السواحل،
اعتماد فرق تفتيش مختلطة تجمع الأمن بالخبراء المدنيين،
وتعزيز التعاون الثنائي مع دول الجوار لتبادل المعلومات حول شبكات التهريب.
هذا النهج يحصّن البلد من تدفقات غير قانونية، ويحميه من اختراقات قد تُستغل لإحداث توترات داخلية.
ثانياً: إدارة الهجرة بصورة إنسانية ومنظمة
من غير الواقعي وقف الهجرة تماماً، لكن يمكن تقييدها وتنظيمها عبر:
برامج تسوية قانونية للوافدين غير الخطرين،
إنشاء مسارات آمنة للراغبين في مغادرة البلد طوعياً،
شراكات مع دول المنشأ لتقليل الدوافع الاقتصادية للهجرة،
توفير أماكن استقبال لائقة تحترم المعايير الإنسانية.
إن احترام الكرامة الإنسانية لا يتعارض مع حماية الأمن القومي، بل يعززه.
ثالثاً: حماية النسيج الاجتماعي من محاولات الشقاق
الحرب الأهلية لا تُولد من فراغ، بل من فراغات: فراغ الثقة، وفراغ التنمية، وفراغ التواصل.
ولمنع أي «أسافين» خارجية أو داخلية ينبغي:
الاستثمار في مشاريع سريعة الأثر في المناطق الهشة والحدودية،
إنشاء محاظر ومعاهد علمية على الحدود لاستقطاب الطلاب الأفارقة في إطار محكوم،
تعزيز دور الدولة كفاعل حضاري لا كمجرّد جهاز إداري،
إطلاق حوارات محلية تُشرك الوجهاء والشباب والنساء في صناعة الأمن المجتمعي.
رابعاً: مواجهة الجريمة المنظمة والجرائم السيبرانية
إن شبكات المخدرات والاتجار بالبشر تملك إمكانات مالية وتنظيمية تتجاوز الوسائل التقليدية. لذلك ينبغي:
إنشاء خلية استخبارات اقتصادية لتعقب تدفق الأموال المشبوهة،
تطوير قدرات الدولة في الأمن الرقمي،
إعداد تشريعات لحماية البيانات،
وتدريب فرق مختصة على مواجهة القرصنة والتجسس الإلكتروني.
الأمن الحديث لم يعد حواجز وحرساً فقط، بل هو أيضاً معادلات رياضية وخوارزميات.
خامساً: تعزيز منسوب الوطنية والتكوين المدني داخل الأجهزة
المخاطر الكبرى تظهر حين يضعف الإحساس بالانتماء داخل المؤسسات المكلفة بحماية الدولة.
ولذا فإن إدماج وحدات مكثفة في التدريب الأمني حول:
أخلاقيات المهنة،
حقوق الإنسان،
إدارة التعدد والانفتاح،
والتربية الوطنية،
يُعد ضرورة استراتيجية لا خياراً ثانوياً.
سادساً: دبلوماسية نشطة وذكية
الموقع الجغرافي ليس عبئاً بل فرصة، بشرط إدارة التوازنات الإقليمية بحكمة:
توثيق التعاون مع إفريقيا الغربية،
تنويع الشراكات مع أوروبا،
بناء سياسة خارجية تُظهر البلد كفاعل حضاري، لا كمنطقة عبور،
والانفتاح المدروس على مؤسسات التمويل الدولية لرفد برامج الأمن والتنمية.
خاتمة
إن بلدًا بهذه الحساسية الجغرافية، والهشاشة الديموغرافية النسبية، والغنى الطبيعي، يحتاج إلى رؤية استباقية لا رد فعل، وإلى أمن مدني بقدر ما يحتاج إلى أمن عسكري. فالتاريخ أثبت أن الدول التي وقعت فريسة للفوضى لم تُهزم بالقوة، بل بعدم الوعي بالمخاطر في مراحل مبكرة.
إن بناء مشروع وطني متماسك—يجمع بين الأمن والتنمية، بين الانفتاح والحذر، بين قوة الدولة ورحمتها—هو الطريق الوحيد لتفادي الأخطار التي تتربص بالمنطقة والعالم من حولنا.
