موريتانيا عند مفترق الطرق: بين وعد الاستقلال وتحديات العدالة

author
0 minutes, 2 seconds Read

 

هل يمكن أن يُبنى وطنٌ وأيدي الفساد لا تزال تمتد إلى خزينته؟
وكيف يدافع المواطن عن الحق إذا كان الباطل يمنحه ما يريد؟
وكلما ارتفع صوت الكذب، فهو غالبًا مؤشر على أن قوة العدالة قد أصبحت مهدَّدة.

في دول العالم النامي، باتت العدالة في كثير من الأحيان تقوم على أربعة أعمدة مقلقة:
قانونٌ مرنٌ للأقوياء، وصلبٌ في وجه الضعفاء…
ميزانٌ يميل دائمًا نحو جهة الأثرياء…
نفوذٌ يحمي الامتياز قبل أن يحمي الحق…
ومظلومٌ تفشل الأرض في إنصافه، فيرفع قضيته إلى السماء.

بهذه الخلفية يمكن قراءة الخطاب الذي قدّمه الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني بمناسبة الذكرى الخامسة والستين للاستقلال الوطني. فقد جاء الخطاب منسجم البناء، واستعرض منجزات تم تنفيذ بعضها وأخرى قيد الإنجاز، وأكد أهمية الحكامة الرشيدة ومحاربة الفساد وتفعيل أجهزة الرقابة والتفتيش، مع التعهّد بنشر تقاريرها وتنفيذ توصياتها.

هذه رسائل إيجابية في الشكل… لكنها لا تزال بحاجة إلى قوة التنفيذ في الواقع.

 

الحكامة ومحاربة الفساد: هل تتحول النوايا إلى سياسات؟

رئيس الجمهورية شدّد على أن مكافحة الفساد لن تكون تصفية للحسابات السياسية، ولن تعتمد الاتهام دون بيّنة. لكن المصداقية الحقيقية تتطلب خطوات واضحة، من بينها:

فتح ملفات التعيينات والصفقات التي تُدار بمنطق الزبونية والمحسوبية.

إنهاء الحصانة غير المعلنة على أصحاب النفوذ.

حماية مسابقات الاكتتاب من الخرق والتلاعب.

تفعيل مبدأ تكافؤ الفرص كركيزة للدستور لا كشعار مؤجل.

إن موريتانيا لا تفتقر إلى النصوص القانونية… بل تفتقر إلى العدالة في تطبيقها.

 

البرامج الاجتماعية: دعمٌ أم صناعةٌ للاتكالية؟

أشار الخطاب إلى استمرار البرامج الاجتماعية، وفي مقدمتها برنامج تآزر. غير أن هذه البرامج باتت أقرب إلى تقديم المساعدة من تقديم الفرص؛ فهي تُنتج محتاجًا ينتظر، أكثر مما تصنع مواطنًا يشارك ويُنتج.

ولهذا تبدو الحاجة ملحّة للانتقال نحو نموذج مختلف يقوم على:

المشاريع التشاركية،

المبادرات المحلية،

الجمعيات الإنتاجية،

وتمكين الأفراد من خلق القيمة بدل انتظارها.

فالمجتمع لا يُبنى على التبرعات… بل على الشراكة والثقة في قدرة الإنسان على الإسهام.

 

الاكتتابات والتعيينات… الاختبار الحقيقي للثقة

الحديث عن اكتتاب ثلاثة آلاف موظف خطوة يمكن البناء عليها، غير أن الشارع الموريتاني لم ينسَ بعد ملفات المسابقات الماضية وما شابها من انتقائية وخرق للقوانين.
كما لم يتناول الخطاب ظاهرة التعيينات السياسية والتعاقدات من خارج أسلاك الوظيفة العمومية، وهي ممارسات تضعف الكفاءات وتُحبط تطلعات الشباب، وتُعرقل بناء دولة المؤسسات.

 

المتقاعدون… حين يُستبدل الوفاء بالمعاوضة

الزيادة الأخيرة في الرواتب شملت أغلب أطر التعليم، وهو أمر محمود من حيث المبدأ، لكنها جاءت بصيغة المعاوضة الظرفية لا في إطار رؤية بعيدة المدى للعدالة الاجتماعية. فالمتقاعدون – الذين أفنوا أعمارهم في خدمة الوطن – تم تجاهلهم في فترة تتفاقم فيها الحاجة إلى الدواء والمعاش وتزداد فيها تكلفة الحياة.

هل يُعقل أن تتحول نهاية الخدمة إلى بداية للمعاناة؟
وهل من الإنصاف أن يُنسى من بنوا المدرسة والإدارة والمرفق العمومي بمجرد وصولهم سن التقاعد؟
إن المتقاعدين ليسوا عبئًا على الدولة، بل هم ذاكرة الخبرة ورأس المال البشري للمؤسسات. وأي إصلاح يهمّشهم… لن يُبنى على حكمة، بل على قصر في النظر.

 

خاتمة: الاستقلال ليس ذكرى… بل مسؤولية يومية

قدّم الرئيس خطابًا متوازنًا يحمل نوايا إيجابية، لكن قوته ستُقاس بقدرته على تحويل التعهّدات إلى واقع ملموس عبر:

1. وضع جدول زمني واضح للإصلاحات.

2. محاسبة الفساد المنظّم قبل الأفراد الصغار.

3. الانتقال من منطق الإعانة إلى منطق الإنتاج والتمكين.

4. رد الاعتبار للمتقاعدين بوصفهم جزءًا من القوة الوطنية لا عبئًا اقتصاديًا.

 

فالاستقلال ليس علمًا يُرفع كل عام…
بل عقدٌ اجتماعي يُصان كل يوم.
والدولة لا تُبنى بالخطب الرنانة… بل بالعدالة حين تصبح أقوى من النفوذ.

Similar Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *