أخبار اليوم. منذ السابع من أكتوبر 2023 عاد اسم هنري كيسنجر إلى الخطاب السياسي والإعلامي عبر ما نُسب إليه من “نبوءة” خطيرة مفادها أن الشرق الأوسط سيشعل شرارة حرب عالمية ثالثة، ستدور بين محورين:
أمريكا والناتو من جهة، والصين وروسيا وإيران وحلفاؤهم من جهة أخرى.
وبحسب تلك القراءة المتداولة، فإن إسرائيل ستقود معركة واسعة لاحتلال أكثر من نصف الشرق الأوسط، بينما ستنهار الأنظمة الشمولية في الصين وروسيا، وستصبح واشنطن “سيدة العالم”، اعتمادًا على جاهزية الشباب الغربي الذي تلقى – كما قيل – التدريب اللازم للحسم العسكري.
لكن… ماذا فعلت الوقائع بعد السابع من أكتوبر بهذه الرؤية؟ وهل بقيت النبوءة صامدة كما رُوّج لها؟
أول اختبار للنبوءة: إسرائيل تتراجع بدل أن تتمدد
كيسنجر راهن على القوة الإسرائيلية كأداة حسم سريعة في الشرق الأوسط، غير أن الواقع جاء معاكسًا جذريًا:
فشل واضح في تحقيق الحسم العسكري.
تقلص في قدرة الردع إلى أدنى مستوياتها.
توسع الجبهات ضدها من غزة ولبنان إلى سوريا والعراق وصولًا إلى البحر الأحمر.
تراجع صورتها الأخلاقية والدبلوماسية في العالم، وتزايد الأصوات المطالِبة بمحاسبتها.
لقد تحوّلت إسرائيل من طرف مهاجم إلى طرف يدافع عن وجوده السياسي والمعنوي… وهي نقطة لم تكن واردة في الحسابات القديمة.
إيران: من تهديد مزعوم إلى رقم صعب
في تحليلات كيسنجر تظهر إيران كأخطر عنصر يمكن أن يهدد الاستقرار، لكن الميدان كشف قراءة مختلفة:
صعود نفوذها الإقليمي من المتوسط إلى البحر الأحمر.
قدرتها على بناء منظومة ردع غير مباشرة عبر أذرع متعددة.
تحولها من “هدف للعقوبات” إلى طرف يُفاوض بصمت عبر وسطاء في أكثر من ملف.
هكذا أصبح تجاهل إيران خطأً استراتيجيًا، وأصبح إدماجها في المعادلة الإقليمية ضرورة سياسية حتى لدى خصومها.
الشباب الغربي… صدمة غير متوقعة
كان كيسنجر يعتقد أن شباب أوروبا وأمريكا جاهز للتعبئة الحربية، لكن ما حدث هو العكس التام:
مظاهرات جامعية واسعة دفاعًا عن فلسطين.
تصاعد الغضب من السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط.
ظهور خطاب أخلاقي يرى أن الدفاع عن القضية الفلسطينية جزء من منظومة العدالة الإنسانية.
لم يسمع أصحاب النظرية القديمة صوت الشعوب… ولا لاحظوا تحول الرأي العام الغربي إلى قوة ضغط سياسية وأخلاقية غير مسبوقة.
هل يقترب العالم من الحرب الكبرى؟
لا يمكن إنكار مؤشرات الخطر:
حرب استنزاف في أوكرانيا.
احتكاكات متواصلة في بحر الصين.
تشغيل القواعد الأمريكية في الشرق الأوسط بحالة تأهب دائم.
مناوشات بحرية في البحر الأحمر ببدأت تأخذ شكل اشتباك منخفض الوتيرة.
لكن رغم ذلك تسعى القوى الكبرى – حتى الآن – إلى الحرب المحدودة لا الحرب الشاملة. فالقيادة السياسية والعسكرية في الغرب والشرق تدرك أن أي حرب عالمية مباشرة قد تعني نهاية النموذج الحضاري الحالي نفسه… وليس مجرد انتصار جيوسياسي لطرف على آخر.
ما بعد النبوءة… ولادة معادلات جديدة
تكشف التطورات المتسارعة أن الرؤية التقليدية التي تبناها كيسنجر لم تعد قادرة على تفسير الواقع الراهن في الشرق الأوسط. فإسرائيل، التي وُضعت في موقع القوة المتقدمة والذراع العسكرية للمشروع الغربي، وجدت نفسها في أخطر اختبار منذ عقود، وخسرت جزءًا من قدرتها على الردع ومن شرعيتها الأخلاقية أمام العالم. أما إيران، التي وُصفت بأنها خطر مؤقت يمكن تطويقه، فقد ظهرت كفاعل أساسي لا يمكن تجاوزه في رسم موازين القوة الإقليمية.
كما كشف الميدان السياسي الغربي أن الشباب الأوروبي والأمريكي ليس ذخيرة تُقاد نحو الحرب، بل جبهة وعي جديدة تُعطّل الدعاية الحربية وتعيد تعريف مفهوم العدالة وحقوق الإنسان خارج الصيغ التقليدية. وهكذا، لم تتحقق “النبوءة”، بل انفتح العالم على مرحلة مختلفة لا تقوم بالضرورة على حرب عالمية شاملة، وإنما على ولادة نظام دولي متعدد الأقطاب… تتوزع فيه مراكز التأثير بطريقة أكثر عمقًا من نظريات النفوذ والسيطرة التي حكمت القرن الماضي.
بهذا يمكن القول:
ربما سمع كيسنجر قرع طبول الحرب…
لكن ما لم يسمعه هو نبض الشعوب،
والشعوب اليوم بدأت تكتب فصلاً جديدًا من تاريخ المنطقة…
خارج حدود التوقعات القديمة، وخارج منطق القوة وحده.
