الرسائل الخاصة لزيارة الحدود الملتهبة…محمدمحمود أبوالمعالي

author
0 minutes, 3 seconds Read

 

أخبار اليوم.    ليس من نافلة الحديث ولا حشو الكلام، القول إن جل الخائضين في دوافع ونتائج زيارة رئيس الجمهورية لولاية الحوض الشرقي، قد تبارت أسنة يراعهم وأزرار حواسيبهم وهواتفهم في تقييم جوانبها التفقدية والاستطلاعية والتنموية، وما تخللها من خطابات ذات أبعاد سياسية ووطنية، بين مُثنٍ عليها ومنتقد لها، ولهم في ذلك الخِيّرة من أمرهم، لكن أيا منهم لم ينعطف أو يلتفت تلميحا أو تصريحا إلى أبعاد أخرى لهذه الزيارة ذات شأن جليل وشأو عظيم، فرضتها طبيعة الولاية المَزُورة والفترة التي جاءت فيها الزيارة، وما يكتنفها من أوضاع وظروف خاصة وحساسة، وفي مقدمتها البعد الاستراتيجي والأمني الحرج لتلك المنطقة الحدودية التي تضطرم نار حرب ذاتِ لهب قاب قوسيين أو أدنى منها، فالأمر يتعلق بولاية تشترك مع جمهورية مالي في حدود طويلة ومتداخلة ومعقدة التضاريس، وقد ألف طرف الحدود المقابل العنف والفوضى وعاشهما الناس هناك حينا من الدهر، ينامون ويصحون على حوادث القتل والقتال والتهريب والتهجير، فلم يعرفوا الأمن ولم يألفوا السلام، لكن الفترة الأخيرة شهدت تطورا وتوسعا خطيرين في مستوى ونوع تلك الفوضى الهدامة، إثر تحولات كبيرة طرأت على ميكانيزمات الأزمة العرقية والدينية والجيو ـ سياسية، التي تعرفها مالي، مع دخول لاعبين جدد على خط الصراع، جاءوا من أقاصي أوربا الشرقية والفضاء السُّلافي، وتراجع كبير للنفوذ الفرنسي التقليدي وحلفائه الغربيين، وصل حد الطرد والانسحاب العسكري، فضلا عن انضمام مجموعات عرقية محلية ذات كثافة بشرية، إلى سُوح القتال وجماعات التمرد خلال السنوات القليلة الماضية، فبات الناس هناك يسكنهم الخوف أكثر من أي وقت مضى، ويسرق منهم لحظات الحياة، لا يدرون هل تضربهم طاحونة العنف بياتا وهم نائمون، أم تداهم أرتال الموت وأشباحه مضاربهم وهم قائلون، وصار أملهم الأوحد وغايتهم القصوى، بقية من سلطة الدولة وشيء من الأمان، أما التنمية والبنى التحتية والمشاريع الاقتصادية والصحية والتعليمية، فذلك ضرب من الخيال قصرت دونه أحلامهم ووهنت أمانيهم.

 

وخلافا لما عليه الوضع هناك، فإن ما دون خط حدودنا وعلى مرمى حجر من تلك الفوضى الفتاكة، يعيش المواطنون الموريتانيون ومن لجأ إليهم من إخوة الجيرة والدين والدم، حالة أمن واستقرار لا يعكر صفوها إلا بعض الأنباء التي ترد من حين لآخر من الشق الآخر للحدود تحمل في الغالب أخبارا غير سارة عن قريب أو صديق تخلف هناك، فعبثت به يد الإرهاب أو طالته سهام الغدر والبطش والتنكيل.

 

وفي تلك الربوع القصية من الوطن، وعلى مشارف دوامة ذلك العنف الماحق على شفا جرف هار من أرض تعصف بها الفوضى، تجول رئيس الجمهورية وهو على غير عجلة من أمره وفي متسع من وقته، فاستقبله السكان في مشهد التحامي، توجس الكثيرون خيفة أن يكون مغامرة أمنية أو مجازفة غير محسوبة العواقب، نظرا لوجود جماعات العنف المسلح والمارقين من عصابات الجريمة المنظمة والتهريب تسرح وتمرح قرب المنطقة، بيد أن تلك الثقة التي جاء بها إلى أقصى مشارف الحدود، وهو على مهل وروية، وتَقصُّده الالتحام بالمواطنين من مستقبليه دون خيفة أو وجل، لم تكن ضربة حظ ولا رمية من غير رام، بل كانت نتيجة طبيعية لسنوات من العمل الأمني والعسكري والسياسي والتنموي في تلك المنطقة، لذلك أعرض صفحا ونأى بجانبه عن تلك المخاوف والهواجس التي اجتثت مسوغاتها وبواعثها من فوق تلك الأر ض مالها من قرار، فقد أنتجت تلك السياسة الصارمة والهادئة، ذلك البون الشاسع على طرفي الحدود وصاغت بينهما برزخا من الأمن والأمان لا يبغي فيه هرج ومرج الحرب هناك، على هدوء وسكينة الطمأنينة هنا.

 

واستقراء لملابسات وسياقات تلك الزيارة التي استمرت ثمانية أيام بلياليها، لا مندوحة من الإشارة إلى أنها حملت ـ إلى جانب شقها الاستطلاعي والتفقدي والتنموي ـ رسائل أمنية واستراتيجية عديدة، داخليا وإقليميا ودوليا، لا مناص من التطرق لبعضها:

 

الرسالة الأولى: هي ما تضمنه خطاب عدل بكرو بشأن الجارة مالي، وما أبرقه من رسائل متعددة المضامين حول العلاقات القدرية الأزلية بين البلدين والتي لا مناص منها ولا مفر، بحكم عوامل الجغرافيا والتاريخ والتداخل الاجتماعي والديمغرافي عبر قرون سحيقة سبقت ترسيم الحدود وميلاد الدولة الوطنية، وتفهمه للأوضاع الصعبة التي تعيشها مالي اليوم وهي تخوض حربا داخلية مفتوحة، فكان فحوى الرسالة للجيران، أننا أهلكم وإخوتكم، ممتون لماضي المعاملة الحسنة بيننا وبينكم، ونمد لكم يد الاستقرار الذي ألفناه وسعينا إليه وحصدنا ثماره أمنا وعافية، ونرحب بمن لجأ منكم إلينا طلبا للأمن والسلامة، وسنتقاسم وإياه الزاد والمأوى، لكن دون أن نتدخل في شأنكم الداخلي.

 

الرسالة الثانية: كانت موجهة لمجتمع الحدود وساكنتها، فجاءت دعوة رئيس الجمهورية المواطنين إلى اليقظة والاحتراز، وتشكيل شبكات أمان وإنذار مبكر ضد التهديدات العابرة للحدود، وهو ما يشكل إحساسا عميقا بضرورة إشراك المواطن في صناعة أمنه وصياغة أسباب استقراره، في مسعى لتحقيق هدف استراتيجي وهو دمج المواطن في مفهوم الأمن الاجتماعي الذاتي الشامل، بدل أن يظل متفرجا مقتصرا على الاعتماد على الأمن العسكري التقليدي.

 

الرسالة الثالثة: وهي رسالة طمأنة لأولئك السكان، ومفادها أننا هنا معكم وبينكم، وقادرون على حمايتكم وتوفير سبل العيش الكريم لكم، وحين نطمئن على الحدود وساكنتها فذلك يعني بالضرورة طمأنة باقي أرجاء الوطن ومن سكنه وأقام فيه، كما تشكل إعلانا عمليا لا شية فيه ولا ريب، أن التخوم والاعماق ليست أقل شأنا من المركز وإن بعدت الشُقة ونأت الديار وشط المزار، بل تتصدر جوهر وصلب اهتمامات الدولة، ولا مجال للحديث عن لعنة الجغرافيا أو أفضلية تراتبية لدى الدولة بين بقاع الوطن ونواحيه.

 

الرسالة الرابعة: للشركاء الدوليين والإقليميين مفادها أننا في بلدنا آمنون من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق، ولدينا مطلق الثقة في أجهزتنا العسكرية والأمنية والإدارية، ومطمئنون لها ولأدائها، مهما ارتفعت مؤشرات الخطر واضطرم لهيب الفتنة من حولنا، فها هي مناطقنا الحدودية على مقربة من أعتى بؤرة للتوتر في المنطقة، تنعم بالأمن والاستقرار وتخوض غمار معركة التنمية المحلية، لتقدم بذلك نموذجا قادرا على الإفصاح عن نفسه بكل سفور وجلاء ـ لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ـ على أن المنطقة متى ما حظيت بحكامة راشدة وتوفرت لها سياسات تنموية واجتماعية صائبة لا غبن فيها ولا ظلم، فإنها قابلة للعيش بسلام وهدوء، وإن اشتعلت الحروب وتفاقمت الاضطرابات من حولها.

 

الرسالة الخامسة: موجهة لمن هم على الطرف الآخر من الحدود، مفادها أن وجود رئيس الجمهورية على تلك الحدود، وهو في روية من أمره وسعة من وقته يتفقد القوات المرابطة على الثغور، يشكل تواصلا عميقا غير مباشر مع من هم هناك، سواء تعلق الامر بالدولة المالية وحلفائها، أو بالمجموعات المسلحة بكل أطيافها ومشاربها، وهذه الرسالة مفادها أننا حاضرون وجاهزون على حدودنا سلطة وقوة، نحمي الأرض ونرد الأذى ونوفر لمواطنينا ومن لجأ إليهم بحبوحة عيش كريم، ليبقوا آمنين مطمئنين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون، وفي شقها الآخر رسالة ردع قوية لمن يتربص بنا الدوائر أو يفكر في تعكير صفو حدودنا والعبث بحالة الاستقرار والأمان فيها، ومن يشككون في قدرة الدولة وأجهزتها على حماية البلاد وصون أمن العباد.

 

الرسالة السادسة: هي أن التنمية أساس الاستقرار، والأمن التنموي والاقتصادي لا يقلان أهمية عن الأمن العسكري والإداري، وإن شُغل جارنا بالحروب الداخلية والسعي للحفاظ على كينونته، فإننا مشغولون بالتنمية وترسيخ السياسات الحكيمة، ونؤمن أنه كلما انطلق مشروع تنموي ناجح، فقد أغلق بالضرورة مشروع فوضوي متطرف، وأن الاستقرار بالنسبة لنا ليس مجرد هدوء أمني مفروض، وإنما ارتياح شعبي وقبول مجتمعي مؤسس على رضا الناس وإيمانهم بأهمية الدولة وما توفره لمواطنيها من خدمات ومصالح، يحميها جيش مؤهل وقوي لا تفارق أصابع جنوده الزناد آناء الليل وأطراف النهار.

 

محمد محمود أبو المعالي

Similar Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *