الزيارة والتدرّج في الكشف عن أهدافها الحقيقية

author
0 minutes, 2 seconds Read

أخباراليوم.  منذواللحظة الأولى لانطلاق الزيارة الرئاسية إلى ولايات الداخل، لم يكن السؤال المطروح هو ماذا يقول الرئيس؟ بل إلى أين يريد أن يصل؟
لقد بدا واضحًا أن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني لا يتحدث عفوًا، بل يُرسل رسائل مشفّرة تُقرأ على مستويات عدّة؛ رسائل إلى الطبقة السياسية، وأخرى إلى شركاء الحكم، وثالثة إلى الرأي العام المتحفّز الذي ينتظر ملامح “إعادة التأسيس” التي وعد بها الرئيس في أكثر من خطاب.

لقد عبّرتُ سابقًا، وأجدّد اليوم، أن الهدف المركزي من الحوار الوطني المرتقب هو تعديل الدستور، لا لمجرد البقاء في الحكم كما يروّج البعض، بل لتصحيح اختلالات بنيوية عميقة في النظام المؤسسي، وإعادة صياغة علاقة الدولة بالمجتمع.
فالمؤسسات الدستورية التي أُنشئت في مراحل مختلفة من تاريخ الجمهورية لم تؤدِّ وظائفها بالشكل المطلوب؛ بعضها تحوّل إلى عبء مالي دون مردودية، وبعضها الآخر صار أداة شكلية لتسكين الغضب الاجتماعي أكثر من كونه آلية فاعلة في اتخاذ القرار.

 

مؤشرات على مراجعة دستورية وشيكة

حين تساءل الرئيس صراحة عن جدوى المجلس الاقتصادي والاجتماعي والمجلس الأعلى للفتوى والمظالم، بدا وكأنه يضع يده على مواضع الهدر المؤسسي.
كان من الطبيعي أيضًا أن تمتد التساؤلات إلى المجلس الأعلى للشباب، الذي لم يستطع خلال السنوات الماضية أن يتحول إلى جسر فعلي بين الدولة والجيل الجديد.
كما أن انتقاد الرئيس للأداء الضعيف لمجالس الجهة، والتي كان يُعوَّل عليها في التنمية المحلية، يفتح الباب أمام احتمال إعادة النظر في مجمل الهيكلة الإدارية والمؤسسية، وربما التفكير في صيغة جديدة تعيد إلى اللامركزية معناها الحقيقي.

وفي السياق ذاته، جاء تساؤله عن الغرفة الثانية للبرلمان كإشارة رمزية إلى إمكانية العودة إلى نظام مجلس الشيوخ، لكن بصيغة أكثر واقعية وتمثيلية، تضمن التوازن بين الرقابة والمساءلة، وبين كلفة المؤسسة وفاعليتها.

 

بين الشائعات وحقيقة الصراع السياسي

لم تكن الساحة السياسية بمنأى عن موجة الشائعات التي غذّت الحديث عن مرحلة ما بعد الرئيس.
فمنذ أشهر، انتشرت روايات تتحدث عن صراع داخل الحكومة وعن مشاريع خارجية لاختيار خليفة للرئيس، وبلغ الأمر أن تحدّث البعض عن “خطة إماراتية” لتسويق اسم ولد بي — شقيق وزير العدل السابق، وأمين عام ما يُعرف بالبيت الإبراهيمي، وزوج لابنة سيناتور أمريكي — بوصفه الوريث السياسي القادم.

وراجت كذلك أحاديث عن منافسة خفية بين ولد اجاي وولد احويرثي، حيث يُقال إن زوجة الرئيس تميل لدعم الأول، بينما يحظى الثاني بدعم شبكات داخل الجهاز التنفيذي.
وفي المقابل، يتردّد اسم الجنرال حننه ولد سيدي كمرشّح عسكري محتمل، مستندًا إلى نفوذ واسع داخل المؤسسة العسكرية وصل حدّ أن البعض يرى فيه “الخليفة الطبيعي” للرئيس، مستدلين بانتشار أبناء عمومته وأقربائه في مفاصل الجيش والأمن، وبما يوصف بأنه إطلاق يد غير مسبوق في التعيينات والتوريث الوظيفي.

ورغم المبالغة الواضحة في كثير من هذه السيناريوهات، إلا أن رواجها بهذا الشكل يعكس حالة سيولة سياسية وغياب وضوح في المشهد الانتقالي، وهو ما يجعل الشارع يبحث عن إجابات في الكواليس بدل أن يجدها في المؤسسات.

 

التعديل الدستوري: بين الضرورة والفرصة

وفق المعطيات المتداولة، فإن التوجه الحالي قد يسير نحو مراجعة شاملة للدستور تشمل:

إلغاء بعض المجالس غير الفاعلة.

إعادة إنشاء الغرفة الثانية بصيغة جديدة.

تمديد المأمورية الرئاسية إلى سبع سنوات بدل خمس.

وربما إعادة هيكلة النظام الانتخابي بما يضمن تمثيلاً أوسع للجهات.

ويُرجّح أن يتم ذلك عبر استفتاء شعبي بعد مشاورات سياسية موسعة، تتوج لاحقًا بانتخابات بلدية وتشريعية، تمهيدًا لترشح الرئيس لمأمورية جديدة تحت الدستور المعدّل.

لكنّ الخطورة لا تكمن في التعديل ذاته، بل في النية التي تحكمه: هل هو تعديلٌ من أجل ترسيخ الإصلاح؟ أم من أجل إعادة إنتاج نفس المنظومة بوجه جديد؟
هنا تتحدد القيمة الحقيقية لما يُسمّى “الحوار الوطني” المرتقب، بين أن يكون مدخلًا لإعادة توزيع السلطة والثروة، أو مجرد آلية لإعادة ترتيب الواجهة السياسية.

 

ملف العدالة والتوظيف: الامتحان الأخلاقي

إذا كان الرئيس مطلعًا فعلًا على ما يُشاع في الصالونات السياسية، فمن المؤكد أنه يدرك حجم الغبن الاجتماعي والتفاوت في فرص التشغيل.
فملف التعيينات – كما في حالة ولد اجاي مثلًا – يمثل نموذجًا صارخًا على احتكار النفوذ وتكريس الزبونية، حيث تشير شهادات متداولة إلى أن بعض الأسر في دائرته الانتخابية تم تعيين جميع أفرادها تقريبًا، بغضّ النظر عن الكفاءة.
وما يحدث هناك ليس استثناءً، بل يعكس نمطًا واسعًا من الممارسات التي أفرغت مؤسسات الدولة من معناها وكرّست مفهوم “الوظيفة كغنيمة”.

لذلك، فإن أي تعديل دستوري لا يُوازيه إصلاح جذري في منظومة العدالة والتوظيف سيظل ناقصًا، بل وسيُنظر إليه على أنه مجرد تغيير في الشكل دون المضمون.

 

الإصلاح يبدأ من التعليم

من الخطأ الاعتقاد أن الإصلاح الاقتصادي أو السياسي يمكن أن ينجح في غياب إصلاح تربوي متين.
فالتعليم هو القطاع الذي يصنع الإنسان القادر على إدارة الاقتصاد والسياسة والعدالة معًا.
إن توجيه ميزانيات الهيئات الدستورية المترهلة نحو رفع رواتب المدرسين وتحسين ظروفهم المهنية سيشكل أكبر إصلاح مؤسسي يمكن أن يُكتب باسم الرئيس.
كما أن مراجعة رواتب النواب والحكام باتت ضرورة أخلاقية لإعادة التوازن بين السلطات ومبدأ تكافؤ الفرص.

فحين نرفع من قيمة المعلم، نعيد الاعتبار للمعرفة، ونغلق الباب أمام الجهل والزبونية، ونبني الأساس الصلب لأي دولة مدنية عادلة.

 

الرسائل السياسية للزيارة

تُظهر الزيارة الأخيرة للرئيس غزواني أن الرجل بات أكثر وعيًا بطبيعة المرحلة، وأكثر جرأة في طرح الأسئلة التي كانت تُعتبر محرّمة.
لقد كشف التدرج في خطابه عن استراتيجية “التهيئة النفسية” للرأي العام لتقبّل تغييرات دستورية قادمة، لكنها في الوقت ذاته كشفت عن إدراكه لعمق الأزمة داخل الدولة والمجتمع.

الرسالة الأولى كانت موجهة إلى النخبة السياسية: أن زمن الخطاب الموارب انتهى، وأن الشرعية المقبلة ستكون شرعية الأداء لا الولاء.
الرسالة الثانية إلى النافذين في الإدارة والاقتصاد: أن عهد الحصانة الوظيفية يوشك أن يغادر.
أما الرسالة الثالثة فهي إلى الشارع الموريتاني: بأن التغيير ممكن، لكن بشرط أن يشارك فيه الجميع، وأن تُعاد صياغة الدولة على قاعدة العدالة لا الزبونية.

إنها زيارة كشفت أكثر مما أعلنت، ومهّدت أكثر مما قررت، لكنها بلا شك أسّست لمرحلة جديدة سيكون عنوانها الحقيقي:

> “إما إصلاح حقيقي يعيد للدولة روحها، أو استمرار العجز في ثوب دستوري جديد.”

Similar Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *