أخباراليوم.  تعد إحالة ملفات الفساد من أخطر المراحل في مسار الرقابة على المال العام، إذ تمثّل الحلقة التي تربط بين العمل الرقابي والمساءلة القضائية، وتكشف مدى فعالية المنظومة القانونية في مواجهة الانحراف في تسيير الشأن العام.
وخلال السنوات الأخيرة شهد التشريع الموريتاني تطورًا ملحوظا ، من خلال صدور نصوص جديدة عزّزت آليات الكشف عن الفساد، وإحالته إلى الجهات القضائية المختصة، وفي مقدّمتها القانون النظامي رقم 32-2018 المتعلق بمحكمة الحسابات، والقانون رقم 021-2025 المتعلق بمكافحة الفساد، والقانون رقم 23-2025 المتعلق بالسلطة الوطنية لمكافحة الفساد، حيث حددت هذه القوانين بصورة دقيقة الجهات المخوّلة بإحالة ملفات الفساد إلى العدالة، والكيفيات القانونية التي يتم من خلالها تفعيل المسؤولية .

أولًا: إحالة ملفات الفساد من طرف محكمة الحسابات
نصّت المادة 28 من القانون النظامي لمحكمة الحسابات على أنه: “إذا أظهر التحقيق وقائع من شأنها أن تشكّل جنحة أو جناية، يقوم مفوض الحكومة بإحالة الملف إلى وزير العدل.”، كما أضافت المادة 61 من نفس القانون على أنه : “عندما يقوم مفوض الحكومة، تطبيقًا للمادة 28 أعلاه، بإحالة قضايا من شأنها أن تؤدي إلى ممارسة الدعوى الجنائية إلى وزير العدل، فإنه يُشعر الوزير المعني، والوزير المكلّف بالمالية.”
كما نصت الفقرة الأخيرة من المادة 62 من نفس القانون على أنه: ” يجب على الوزراء أو السلطات المسؤولة أن يتخذوا إجراءاتٍ تأديبية ضد الموظفين والوكلاء المذكورين في الفقرة الأولى من المادة 43 من هذا القانون، الذين بيّنت المحكمة خطأً منسوبًا إليهم في أمرٍ استعجالي أو ضمن التقرير السنوي العام، كلما أدّى هذا الخطأ إلى تجاوزٍ في الاعتمادات أو ألحق ضررًا بالمصلحة أو بالهيئة المراقَبة.”
فمن خلال هذه المواد يتضح أن المشرّع منح محكمة الحسابات -عبر مفوض الحكومة- صلاحية قانونية صريحة لإحالة الملفات ذات الطابع الجنائي إلى وزير العدل، بما يضمن الانتقال من مرحلة الرقابة إلى مرحلة المتابعة القضائية، غير أن فعالية هذه الإحالة تبقى رهينةً بسرعة التجاوب الحكومي، ومدى استقلالية أجهزة الرقابة في أداء مهامها دون ضغوط إدارية أو سياسية.

ثانيًا: إحالة ملفات الفساد من جهات الرقابة الأخرى

نصّ القانون رقم 23-2025 المتعلّق بالسلطة الوطنية لمكافحة الفساد في مادته الخامسة على أنّه يجوز لهذه السلطة إحالة القضايا ذات الطابع الجنائي إلى النيابة العامة، متى توفّرت أدلّة معقولة على وجود أفعال مجرّمة، كما نص القانون رقم 021-2025 المتعلق بمكافحة الفساد -في مادته 27 – على ما يلي:
“دون المساس بالأحكام الخاصة المنصوص عليها في قوانين أخرى، يجب على هيئات الرقابة والتفتيش إبلاغ النيابة العامة عن جرائم الفساد التي يحصل لها العلم بها أثناء ممارستها لمهامها أو بمناسبتها، وعليها أن تقوم فورًا بإحالة الملفات إلى النيابة العامة المختصة، وتشعر في الوقت نفسه الوزير أو السلطة التي يتبع لها الأشخاص المشمولون بتلك الملفات.”، ووفقًا لهذه المادة، فإن المشرّع جعل من الإبلاغ والإحالة التزامًا قانونيًا لا خيارًا إداريًا، بما يعزز الشفافية ويمنع طمس الملفات داخل الدوائر البيروقراطية أو تأخيرها لأسباب غير موضوعية.

فمن خلال هذه النصوص يتضح أن التشريع الموريتاني قد خطا خطوات مهمّة في ترسيخ مبدأ المساءلة من خلال تحديد مسارات دقيقة لإحالة ملفات الفساد من الهيئات الرقابية إلى الجهات القضائية؛ غير أن التحدّي الحقيقي لا يكمن في وجود النصوص فحسب، بل في تفعيلها على أرض الواقع، عبر ضمان استقلالية أجهزة الرقابة، وتسريع إجراءات الإحالة، وربط المسؤولية بالمحاسبة دون انتقائية أو مجاملة، وهو ما يتوافق مع الالتزامات التي أعلن عنها فخامة رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني في برنامجه الانتخابي، والرامية إلى محاربة الفساد وترسيخ قيم الشفافية وحسن التسيير، باعتبارها ركيزةً أساسية لبناء دولة القانون والمؤسسات.
د/ الشيخ ولد ابوه، أستاذ جامعي، وعضو المكتب التنفيذي للهيئة الوطنية للمحامين