نتائج الباكالوريا: من الإهمال إلى الاستغلال السياسي / د. أمم ولد عبد الله

author
0 minutes, 2 seconds Read

أخبار اليوم.   الحديث عن الاستغلال يقتضي بالضرورة التوقف عند سياقات معينة، بعضها له علاقة مباشرة بالموروث الثقافي، وبعضها الآخر له صلة وطيدة بالتأثيرات التي طالت المنظومة الكونية، خاصة فيما يتعلق بالتعليم. وليس المجتمع الموريتاني، الذي نحن بصدد رصد تفاعله مع تجاوز مرحلة مفصلية في التكوين الأكاديمي، إلا جزءًا من منظومة عتيقة طالتها تأثيرات عالمية. رغم أنه استطاع حتى فترة قريبة أن يُغيب هذا النوع من التعليم عن أولوياته، نتيجة عوامل موضوعية، بعضها ناتج عن الموروث الثقافي الإسلامي الذي تحكّم لفترة طويلة في مفاهيم عدة لها علاقة مباشرة بعملية التعليم والتعلم، فضلًا عن محددات المكانة داخل المجتمع وغيرها.
خلال فترتي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، كان تلاميذ الباكالوريا يبذلون جهودًا فردية مضنية بمساعدة أساتذة يهوون مهنتهم لدرجة تجعل منهم زملاء لكل الطلاب المتميزين. تلك الجهود نلمسها جليًا من خلال التفاعل الفردي مع نتائج “الباك”، التي كان الإعلان عنها يتم بواسطة مكبر الصوت، أو في جريدة الشعب، أو عبر أثير البلاغات الشعبية. ما يهمنا هنا هو أن الناجحين في هذا الامتحان كانوا وحدهم الحاضرين في المشهد، بدءًا من التحضير إلى متابعة النتائج. ورغم فرحتهم العارمة التي تتجسد في الرقص والقفز أو الجري لمسافة طويلة، إلا أنهم سرعان ما يخفون مشاعرهم سعيًا للتكيف مع تقاليد حاضنة لا تولي اهتمامًا كبيرًا لأصحاب “الورق المقوى”.
هذه الفجوة بين مشاعر الطلاب وأفراد أسرهم كانت السبب في واقعية قلَّ نظيرها، فحتى المتفوقون منهم في هذا الامتحان في تلك الفترة كانوا يعيشون عزلة “مشاعرية” تعكس حقيقة مفادها أن التعليم لم يكن بمقدوره أن ينافس المكانة الخاصة التي يوليها القوم للحديث عن الكلأ ونقاط المياه، وربما الحديث عن حرب الخليج الأولى والثانية. مما جعل بعض الناجحين يلجؤون إلى مراسلة زملائهم في جامعات غربية وعربية سعيًا للتكيف مع الواقع الجديد الذي يحلمون به. وإن كانت الفترات الزمنية الطويلة التي يستغرقها الرد تشكل أحد أهم الإكراهات للهروب من واقعهم المتنكر لمجهود جبار في نظرهم. ومع ذلك، لم ينعكس هذا الشعور على تأقلمهم مع بيئتهم، فقد كان الناجحون في امتحان الثانوية العامة يندمجون بسرعة خلال العطلة الصيفية في نمط الإنتاج، سواء كان رعويًا أو تسلقًا للنخيل أو غيرهما من الأنشطة التي تختلف باختلاف المناطق.
مع بداية الألفية الثالثة، حدثت تحولات جذرية أثارت انتباه معظم الفاعلين في المجتمع. وقد أخذ هذا التحول صبغة عالمية نبه إليها الكاتب ديفيد بيكر في كتابه الشهير: “المجتمع المدرسي: التحول التعليمي في الثقافة العالمية” (The Schooled Society: The Educational Transformation of Global Culture)، حيث أشار إلى أن التعليم “أصبح دينًا جديدًا في المجتمعات الحديثة”.
لم تكن موريتانيا لتشذ عن هذا الواقع الجديد، حيث بدأ الاهتمام بالتعليم يتصدر أولويات الأسرة الضعيفة والمتوسطة في خطوة تنبه لها الفاعلون في المجتمع. والحق أن هذا الاهتمام ظهرت بوادره في البلد من خلال خطوات عكست اهتمام السياسيين باستغلال التعليم. تلك الخطوات التي تسللت إلى القطاع من نافذة أخرى، فقد كانت باكورة عملهم تقديم المشروبات وبعض الفطائر للطلبة أثناء الامتحانات الوطنية، خاصة الباكالوريا، حيث شوهد أصحاب الستر الصفراء يجوبون مراكز الامتحانات بشعارات حزب بعينه، ليتم الترويج لتلك العملية عبر وسائل الإعلام. الأمر الذي نال إعجاب الأهالي الذين أشادوا بحزب سياسي نقل تجربة العمل الخيري إلى ميادين السياسة.
بيد أن خطوة كهذه ستدفع بأحزاب سياسية أخرى إلى المنافسة في الميدان ذاته وفي الأقسام النهائية نفسها. وهكذا انتقلنا إلى التنافس بين الأحزاب على تقديم حصص تقوية لأقسام الباكالوريا. ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت نتائج هذا الامتحان الوطني حلبة لصراع النواب ورجال السياسة. الكل يحاول أن يختطف جهود مجهولين ليجعلها في ميزانه السياسي، سواء من خلال تقديم الجوائز للمتفوقين في مهرجانات استعراضية لا تخفي حقيقة نوايا أصحابها، الذين أعجزهم الفعل السياسي المقنع ضمن قواعد “فن الممكن” المعروفة، ليتسلقوا على ظهور أساتذة وإداريين ومجموعة من التلاميذ الذين كانوا في الحقيقة ثمرة جهود طواقم تربوية وإدارية خلال عقد ونيف من الزمن. إنه الاستغلال السياسي لنتائج امتحان وطني بحجم الباكالوريا ليس إلا، حيث يتعانق الإنجاز والأمل والطموح على أهم مفترق في المسار الدراسي لطلبة الثانوية العامة

Similar Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *