نحن.. والحملة الأبدية- محمد فال ولد بَلال

author
0 minutes, 1 second Read

أخبار اليوم.     معلومٌ أن الحملات الانتخابية تُفتتح وتُختتم وفقًا لمواعيد وآجال يحددها القانون. ومع انتهاء تلك الآجال تنتهي الحملة، و يبدأ العمل. هذا ما يقتضيه العقل السليم؛ لكن العقل السياسي في بلادنا يقتضي غير ذلك. هنا تستمر الحملة الانتخابية بضجيجها وصخبها وألاعيبها، ولا تكاد تتوقف. يمكن لأي مراقب، مُطّلع أو غير مطلع، أن يُلاحظ أجواء الحملة الدائمة واللانهائية التي نعيشها. كل يوم جديد هو في اعتقادنا يوم حملة جديد يستَوجب إظهار الولاء، وتأكيد البَيعة، وتلميع القادة، وسرد “الإنجازات”، و “المكاسب”، و”التوجيهات النيرة”، و”المشاريع الطموحة”، إلخ.. نتصرف و كأننا في حملة أبدية سرمدية.
على خلاف ما يتصوره البعض، فإن هذه الظاهرة ليست مَركة موريتانية خاصة، ولا صناعة للحزب الحاكم في بلدنا، بل هي نتاج أمريكي في الأصل ضمن ما يسمّى “الحملة الدائمة” التي تمّ تأسيسها وتصديرها ثقافة وممارسة وسلوكا منذ عشرينيات القرن الماضي إلى العالم كافة. بعض الدول استطاعت رفضها والاستغناء عنها، وبعضها استطاع تطويعها والاستفادة منها، وبعضها – خاصة في أفريقيا – عجز عن تجاوز المظاهر والقشور، واكتوى بنارها. وهي في الأصل نظريّة من نظريّات “الترويج” و “الإشهار” و”الإعلانات التجارية” طوّرها علماء الاتصال والاعلام لتصبح نمط تخدير  و/أو حكامة سياسية.
الهدف الرئيسي منها هو السيطرة على الساحات والميادين والرأي العام بالطريقة ذاتها التي تستخدمها “موريتل”، “ماتل”، “شنگيتل”، وتستخدمها البنوك لبيع تطبيقاتها وسلعها. فيتمّ الترويج “للرجل السياسي” بالصورة والصوت والتدوين والبث المباشر بالضبط كما يتم الإشهار “لبنكيلي”، و”مصرفي” و”السداد”. ومن جملة أغراض نظرية “الحملة الدائمة” ووسائل نفاذها إلى عقول البشر أن تحل الصورة محل الواقع، ويحل الشكل محل الجوهر، وتحل الشعبوية محل الشرعية. وعلى هذا النحو، يتحول كل شيء إلى صورة مُصنّعة ومُفبركة.. ومن نتائجها كذلك أن تصبح “السياسة” – بالمعنى التقليدي للكلمة – لا معنى لها ولا مكان، لأن “الحملة” عندما تدوم وتستمر خارج المواسم الانتخابية تؤدي حتما إلى ضياع الجهد والمال، وتدهور الأحزاب والآليات السياسية التقليدية والثقة في السياسيين. وحين تغيب الأحزاب والمجتمع المدني الواعي، لا يبقى من خَيط ناظم للناس غير العصبية؛ والعصبية تؤدي إلى التفكك والتشرذم، وتقطع أوصال الوحدة، وتحول الأفراد إلى ما يشبه القطع المتناثرة، والمجموعات إلى ما يشبه القطعان. والقطع المتناثرة لا تبني قوة، والقطيع لا يحقق شيئا غير التدافع والنطاح عند فَم البئر. والمرء في هذه الحالة – إلا من رحم ربك – لا يفكر بنفسه ولا يهتدي بعقله؛ وإنما يسبح مع العوام و تتقاذفه أمواج المسايرة والتقليد إلى شاطئ النرجسية و التمظهر. فيكون حاضرا بجسمه لا بعقله، وناطقا بلسان غيره لا بلسانه.
حري بأهل السياسة وعلم الاجتماع في بلادنا أن يجدوا حلا لهذه المعضلة، وأن يفكروا ويبتكروا أساليب ومناهج جديدة بعد 35 سنة من محاولة إرساء تعددية حزبية معقولة. كنا في تسعينيات القرن الماضي نتحجج بحداثة التجربة وبأننا نتعلم المشي، نحبو و نخطو خطواتنا الأولى، وأن الجو العام في البلد يطبعه التوتر والانغلاق، و و و .
أمّا الآن، فليس أمام أهل اليوم سوى الإقلاع و طي صفحة “الحملة الدائمة” وما يلازمها من تطبيل زائد ورقص وغوغاء أثبتت التجربة إفلاسها. والجميع يعلم أن الرئيس لا حاجة له في الحملات خارج مواسم الانتخابات، والحزب لا حاجة له فيها، والفاعلين السياسيين لا يؤمنون بها، والموالاة تزعجها، والمعارضة لا تعبأ بها، والرأي العام يسخر منها… لماذا البقاء عليها؟

Similar Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *