أخبار اليوم. في مشهد تتكرر فيه النماذج وتتشابه فيه الغايات، دأبت الدولة الموريتانية في السنوات الأخيرة على تبني نمط إداري يتمثل في إنشاء مؤسسات جديدة بدل إعادة هيكلة وتطوير المؤسسات القائمة. وقد يبدو للوهلة الأولى أن هذه الخطوة نابعة من رغبة في تحسين الأداء وتوسيع نطاق الخدمات، غير أن تمعنًا بسيطًا في الخلفية التي تنشأ عليها هذه المؤسسات يكشف عن وجه آخر من القصة، أقل نبلاً وأكثر ارتباطًا بمنطق التمويلات الأجنبية وتوازنات المانحين.
إنشاء مؤسسات جديدة – بدل إصلاح الموجود منها – بات سلوكًا مألوفًا في بنية الدولة، والذريعة الجاهزة دومًا هي الاستجابة لمتطلبات التمويل الخارجي. فمن صندوق التضامن الصحي (CNASS) الذي تأسس رغم وجود صندوق التأمين الصحي (CNAM)، إلى مندوبية تآزر التي ظهرت فوق أرضية تزاحمها فيها قطاعات الشؤون الاجتماعية والتنمية الريفية وبرامج محاربة الفقر، يتكرر نفس النمط: مؤسسات جديدة تُولد على عجل، تحمل شعارات براقة، وتستهلك ميزانيات ضخمة من حيث المقار والتجهيزات والاكتتابات، فيما يظل أثرها العملي على الأرض ضبابيًا أو محدودًا أو مشوبًا بالتسيير المرتجل والموسوم أحيانًا بشبهات الفساد.
تآزر مثلًا، ببرامجها المختلفة كـ “بركة” و”الشيله” و”داري”، جاءت لتعالج ما تعالجه قطاعات قائمة، لكنها حملت معها تكاليف إضافية للدولة من قبيل كتلة أجور جديدة، وإدارات موازية، وموازنات تشغيل ضخمة، دون أن تنجح – حتى الآن – في خلق منظومة منسقة ومستدامة لمكافحة الهشاشة، بل زادت من التداخلات وأربكت العمل الاجتماعي بدل أن تنظمه.
هذه النزعة إلى إنشاء مؤسسات جديدة بدل إعادة تأهيل القديمة تمثل عبئًا مزدوجًا: فمن جهة هي تثقل كاهل الميزانية العامة بسبب نفقات التأسيس، والبنية التحتية، والتجهيزات، والموظفين، ومن جهة أخرى تُضعف الفعالية المؤسسية، إذ تتعدد الجهات وتتقاطع الاختصاصات وتضيع المسؤوليات، في ظل غياب تقييم حقيقي أو مساءلة جدية لأداء هذه الهيئات الوليدة.
وما يزيد الطين بلة أن هذه المؤسسات غالبًا ما تُنشأ ضمن إطار مغلق، بعيد عن النقاش العام أو التشاور مع الفاعلين، بل وحتى عن الدراسات الميدانية الدقيقة التي تضمن انسجامها مع واقع البلد واحتياجاته الفعلية. والنتيجة أن كثيرًا منها يتحول إلى كيانات بيروقراطية تستهلك دون أن تنتج، وتصرف أكثر مما تخدم، وتعمق المركزية بدل أن تسهم في فك الاختناقات التنموية.
في العمق، لا مشكلة في التمويل الخارجي بحد ذاته، بل في جعله المحدد الأول لهندسة مؤسسات الدولة. فالتنمية المستدامة لا تُبنى على استرضاء المانحين، بل على رؤية وطنية واضحة، قوامها الإصلاح، وترشيد الموارد، وتعظيم الموجود قبل استحداث المزيد.
لقد آن الأوان لإعادة التفكير في هذه المقاربة، والانطلاق من سؤال بسيط: كم من المؤسسات الجديدة كان يمكن الاستغناء عنها لو تم إصلاح ما هو قائم أصلًا؟
ثم كم من هذه المؤسسات أُنشئت لخدمة المواطن، وكم منها أُنشئت لخدمة سياق سياسي أو رغبة في استيعاب تمويل مشروط أو خلق مناصب ريعية؟
هذه الأسئلة – على بساطتها – تظل مفتوحة تنتظر من الدولة والمجتمع المدني والمراقبين الجادين أن يتعاملو معها بشجاعة، لأن الطريق نحو تنمية حقيقية لا يمر عبر تضخيم الهياكل، بل عبر عقلنتها.