أخباراليوم. خضم الحديث المتكرر عن الفساد كمشكلة كبرى تواجه موريتانيا، تنشغل النخبة الوطنية، رغم محدوديتها العددية، بإدانة هذا الفساد بأشكاله المتعددة: الإداري، المالي، التربوي، والسياسي… غير أن هذه الإدانة غالبًا ما تظل سطحية، لا تتعمق في فهم السياقات الحقيقية التي أنتجت هذا الوضع. فالفساد، في جوهره، ليس سوى مظهر من مظاهر أزمة أعمق: أزمة في الحكامة، بل وفي المنهاج المؤسسي ذاته، منذ نشأة الدولة.
موريتانيا، كدولة، لم تولد ميلادًا طبيعيًا، بل جاءت إلى الوجود ولادةً قسرية، أشبه بمولود خداج، يحمل في طيات تكوينه الأولي كل أسباب هشاشته المستقبلية. لقد تم فرض استقلالها في إطار ترتيبات دولية أكبر، أهمها تأسيس منظمة الأمم المتحدة والحاجة إلى منح “الشرعية” الشكلية للهيمنة الاستعمارية من خلال إدماج مستعمرات سابقة في هيئة الدول. ففرنسا، بعد الحرب العالمية الثانية، لم تعد قادرة على مواصلة احتلالها التقليدي، لكنها كانت أحرص ما تكون على ترك “أبناء الكوميات” و”المتفرنسين” في مواقع التحكم، ممن تلقوا حظًا من التعليم ولو محدودًا، ليضمنوا بقاء الأوضاع على ما كانت عليه.
هؤلاء، كانوا أحرص من فرنسا نفسها على تكريس التخلف، وقد سعوا لعرقلة جهود الرئيس الراحل المختار ولد داداه رحمه الله، الذي حاول منذ الاستقلال تعميم التعليم وتقليص سطوة القبيلة التي تحالفت بشكل عضوي مع مشروع الدولة الوليدة، مما خلق زواجًا كاثوليكيًا بين الدولة والقبلية لا يزال أثره حاضرًا حتى اليوم.
ولأن العاصمة نواكشوط تأسست في فراغ بشري، فقد تم جلب إداريين أجانب لتسييرها. لم يجد هؤلاء نموذجًا سلوكيًا محليًا يحتذون به يتماشى مع القيم الإسلامية، فغابت القدوة، وانتشرت قيم دخيلة كالرشوة، والكذب، واستغلال الإنسان البسيط الذي لم يعرف من قبل حكمًا مركزيًا ولا مؤسسات. وهكذا، سهل إنتاج نخبة صغيرة لكنها مدمرة، تعمل ضد كل محاولة لنهوض الوعي الشعبي، وتقاوم أي تغيير حقيقي.
وحين قررت الدولة تعميم التعليم، وهو جسر الشعوب نحو التقدم، قام هذا اللوبي بإفراغ القرار من محتواه: تم توسيع الخريطة المدرسية بشكل عبثي ليظن المواطن أنه نال حقه، في حين أن المدارس كانت خاوية من المعلمين المؤهلين، وتم الاكتتاب بناءً على الولاء لا الكفاءة. وبدلًا من تحفيز المعلمين للتكوين الذاتي، تم تضليل الجميع بشعارات “الإصلاح”، فكان الإصلاح عبثًا في عبث، أفضى إلى تفريخ مؤسسات تعليمية نخبوية تدرّس مناهج فرنسية، برسوم باهظة تصل إلى مائة ألف أوقية قديمة للسنة الأولى فقط، وكأن في ذلك رسالة صريحة باستبعاد أبناء الطبقات الفقيرة.
أما النخبة الوطنية، فهي الأخرى منقسمة:
قسم اندمج في الدولة العميقة وساهم في تكريس الوضع.
قسم يتهيأ للالتحاق بها طمعًا في نصيب من الغنيمة.
قسم يرتزق بمظلومية بعض الشرائح، دون مشروع وطني واضح.
ويبقى القسم المتشبث بالوطن، وهو الأضعف صوتًا، لكنه الأصدق نية.
وفي ظل هذا المشهد المقلق، ومع تزايد التفاوت الطبقي، وانعزال الطبقة المتحكمة في أحياء راقية وتعليم خاص ونمط عيش بعيد عن واقع المواطن، تتشكل نذر انفجار اجتماعي. وما يزيد الطين بلة، هو طمع قوى خارجية في ثروات البلاد المعدنية والطاقوية، وسعيها لإيجاد موطئ قدم لها عبر دعم أذرع داخلية.
إن استمرار هذا الوضع قد يقود، لا قدر الله، إلى اضطرابات خطيرة، بل وإلى حرب أهلية ناعمة أو صامتة، تبدأ بتفكك في النسيج الاجتماعي، وتنتهي بانهيار الدولة.
خاتمة:
لابد من العودة إلى الجذور، لفهم مكامن الداء الحقيقي. نحن لسنا فقط في حاجة إلى محاربة الفساد، بل إلى مراجعة النموذج المؤسسي كله. علينا أن نؤسس لحكامة جديدة، تنبع من واقعنا، وتحترم قيمنا الإسلامية، وتراهن على الإنسان كمشروع وطني، لا كمجرد رقم في معادلة السلطة.
الكاتب / حمادي سيدي محمد آباتي