أخبار اليوم.     في تقليد سنوي يترقب البرلمان والمهتمون بالشأن العام صدوره، وضعت محكمة الحسابات على طاولة السلطة التشريعية تقريرها حول مشروع قانون التسوية لسنة 2023، وقدمت من خلاله تشريحًا شاملًا لواقع تنفيذ الميزانية، من الإيرادات إلى النفقات، مرورًا بالعجز المالي، وانتهاءً بملاحظات دقيقة على تسيير المال العام.

أولاً: الظرفية الاقتصادية والمالية – بين العوامل الدولية والضغوط المحلية

شهد عام 2023 تباطؤًا عالميًا في النمو الاقتصادي، بلغ على الصعيد الدولي 3.2% مقارنة بـ3.5% سنة 2022، مدفوعًا بتوترات جيوسياسية وانكماش السياسات النقدية، خصوصًا في الدول المتقدمة. أما داخليًا، فسجّل الاقتصاد الموريتاني نموًا متواضعًا بلغ 1.6% فقط، مقابل 6.8% في 2022، متأثرًا بانخفاض القيمة المضافة في قطاعات الصيد والصناعة الاستخراجية والتجارة.

التضخم الوطني شهد بدوره تراجعًا إلى 1.6% مقارنة بـ11% في 2022، وذلك بفعل انخفاض أسعار المواد الغذائية المستوردة. كما عرفت السيولة البنكية تحسناً نسبياً بفضل إجراءات الدعم للفئات الهشة.

ثانياً: الإيرادات – ضعف في التحصيل وتباين بين التوقعات والنتائج

بلغت الإيرادات المحصلة خلال 2023 حوالي 86.63 مليار أوقية جديدة، بنسبة تنفيذ قدرها 90.7% من التوقعات المعدلة (95.5 مليار أوقية). ويمكن تصنيف الأداء على النحو التالي:

الإيرادات الضريبية

• بلغت: 58.81 مليار أوقية (89% من المتوقع).

• تراجعت عن العام السابق بنسبة 3%.

• الضرائب على الأرباح والدخول سجلت نسبة تنفيذ بـ91%، لكن عرفت تراجعًا مقارنة بـ2022.

• الضريبة على القيمة المضافة والمكوس شكّلت أكثر من 80% من إيرادات باب السلع والخدمات، لكنها لم تبلغ المتوقع.

الإيرادات غير الضريبية

• بلغت: 20.54 مليار أوقية، بنسبة تنفيذ 93%.

• سجلت تراجعاً حاداً بـ21% مقارنة بالسنة الماضية.

عائدات رأس المال

• فاقت التوقعات بنسبة 207%، وبلغت أكثر من 1.1 مليار أوقية.

الهبات والمساعدات

• نفذت بنسبة 73% فقط، مما يعكس تراجع الدعم الخارجي.

ثالثاً: النفقات – التسيير يرتفع والاستثمار يتراجع

بلغت النفقات الفعلية لعام 2023 حوالي 97.28 مليار أوقية جديدة، بنسبة تنفيذ 91.5%، وتوزعت على النحو التالي:

• نفقات التسيير: بلغت 58.63 مليار أوقية، وشكلت نسبة كبيرة من المصروفات.

• نفقات الاستثمار: تراجعت بنسبة 15.7% مقارنة بـ2022، وبلغت 25.66 مليار أوقية.

• نفقات الحسابات الخاصة للخزينة: سجلت ارتفاعًا كبيرًا بنسبة 127%.

المرتبات والأجور سجلت تنفيذًا بلغ 105% من التوقعات، في حين كان هناك تراجع نسبي في نفقات السلع والخدمات.

رابعاً: العجز والتمويل – أرقام لا تتطابق وموارد غير مرخصة

بلغ العجز المالي الإجمالي 10.64 مليار أوقية، مقابل 10.84 مليار أوقية متوقعة. وقد تم تمويل هذا العجز عبر:

• التمويل الداخلي: أكثر من 12.6 مليار أوقية.

• التمويل الخارجي: تراجع، وسجل صافي القروض الخارجية عجزاً بـ2.2 مليار أوقية.

• تمويل غير مصرفي: أدرج لأول مرة بقيمة 1.26 مليار أوقية، وهو ما انتقدته المحكمة باعتباره غير مرخص ضمن قانون المالية.

كما أشارت المحكمة إلى فروق في أرقام إهلاك الدين الخارجي، وصلت إلى 560 مليون أوقية بين ما تم التصريح به وما سُجل في الحسابات، وعلّلت وزارة المالية ذلك بوجود تسجيل مؤقت بانتظار المعالجة المحاسبية.

خامساً: ملاحظات رقابية – إخلال بالواجب القانوني وشفافية غير مكتملة

قدّمت المحكمة جملة من الملاحظات الرقابية الجادة، من أبرزها:

• تأخر وزارة المالية في إرسال الوثائق المطلوبة بما يتجاوز الأجل القانوني المحدد بستة أشهر بعد نهاية السنة المالية.

• عدم إشعار المحكمة بالتعديلات التنظيمية المتعلقة بالميزانية.

• غياب التقارير الدورية حول وضعية السيولة.

• عدم إدراج التمويلات الخارجية في الحساب العام للإدارة المالية، خلافًا لما يقتضيه القانون النظامي رقم 039-2018.

سادساً: صندوق المحروقات – أموال متجمّدة بلا استخدام

بلغت مداخيل الصندوق الوطني لعائدات المحروقات خلال 2023 حوالي 21.31 مليون دولار أمريكي، بانخفاض 41% عن 2022، دون أن يتم إجراء أي سحب منها.

وبنهاية السنة، بلغ رصيد الصندوق 192.38 مليون دولار، بزيادة قدرها 12.41% مقارنة بالعام السابق.

سابعاً: توصيات المحكمة – من أجل نظام مالي أكثر انضباطاً

في خاتمة التقرير، أوصت محكمة الحسابات بما يلي:

• مواءمة التبويب الميزانوي والمحاسبي مع النصوص القانونية.

• تحديث النظم المعلوماتية لتتوافق مع المدونة العامة للضرائب.

إدراج التمويلات الخارجية في الحساب العام.

• احترام آجال إرسال التقارير إلى المحكمة.

• عدم استخدام التمويل غير المرخص قانونياً.

خلاصة: رغم أن أرقام العجز والإيرادات والنفقات تبدو ضمن الهامش المتوقع، إلا أن تقرير محكمة الحسابات يشير بوضوح إلى نواقص مؤسسية بنيوية في الإدارة المالية، ويؤكد أن تحقيق الشفافية الكاملة ما زال هدفًا لم يُبلغ بعد